جورجيا والنظام العالمي الجديد 2 - 2

نشر في 04-09-2008
آخر تحديث 04-09-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد ارتبطت جورجيا، أو كرجستان كما قال العرب القدماء، تاريخياً بروسيا منذ عصر القياصرة الروس مروراً بالعصر السوفييتي وحتى الآن، إذ إن خليفة زعيم الثورة البلشفية لينين كان المواطن الجورجي جوزيف غوغاشفيلي، الذي غير اسمه لاحقاً ليصبح «ستالين» أي الفولاذي. وكان ستالين بالتحديد الطرف الذي ضم مقاطعة أوسيتيا المتنازع عليها الآن إلى جورجيا، كما أن إدوارد شيفاردنادزه الرئيس السابق لجورجيا كان قبل ذلك آخر وزير خارجية للاتحاد السوفييتي المنهار. وفي حين مثلت العلائق الحدودية والتركيبة العرقية لجمهوريات القوقاز الأساس الموضوعي للصراعات الحالية والماضية هناك، فإن الاحتقان الذي يصيب الجمهوريات القوقازية الأخرى والتي لم تندلع بها المعارك العسكرية حتى الآن، هو من علامات النزاعات المستقبلية القادمة هناك. ويرتبط الصراع الحالي في جورجيا عضوياً بموارد بحر قزوين من النفط والغاز، لأن بحر قزوين هو بحيرة مغلقة لا تتصل ببحار مفتوحة على العكس من الخليج العربي، وهو ما يرفع من تكاليف نقل هذا النفط. وحتى يتم نقل نفط قزوين إلى الأسواق الدولية فلابد من نقله عبر الأنابيب تحت الأرض لمسافات بعيدة جداً، تتخطى فيها الأنابيب حدود الدول لتصل إلى منتهاها عند مستهلكيها. وتأسيساً على ذلك فقد صار الصراع على فرض الطرق لخطوط الأنابيب ملمحاً رئيساً لصراع القوى والإرادات الإقليمية والدولية في جورجيا والقوقاز. وتتنافس طرق عدة على حيازة قصب السبق في هذا المضمار، وهو الطريق الشمالي من باكو في أذربيجان إلى ميناء سوبسا في جورجيا على البحر الأسود ومن هناك إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط، وهو الطريق الذي تفضله شركات النفط الأميركية، لأسباب غير خافية يتصدرها تقليص مواقع روسيا وإيران في موازين القوى الإقليمية والدولية الجديدة. ومن هذا الطريق تستمد جورجيا أهميتها الإستراتيجية لدى واشنطن، ولذلك فقد عمدت روسيا إلى فرض طريق مغاير لنقل نفط وغاز بحر قزوين، يبدأ من باكو ويمر عبر الأراضي الروسية حتى ميناء نوفروسييسك الروسي على البحر الأسود، ومن هناك إلى الأسواق العالمية، ولكنها فشلت في فرض هذا الطريق على الغرب. ثم حاولت إيران جذب انتباه خطوط الأنابيب ابتداء من باكو وانتهاء في كراتشي بباكستان على بحر العرب مروراً بالأراضي الإيرانية، ولكن من دون نجاح بسبب المعارضة الأميركية لذلك.

درسان مستفادان من صراع القوقاز الحالي: الأول، تأكيد وترسيخ مقولة رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل بأن التحالفات والخصومات غير دائمة، بل المصالح هي الدائمة. والدليل على ذلك أن إيران التي ترتبط الآن بتحالف إقليمي تقوده روسيا في القوقاز، قد فقدت قبل قرنين فقط أراض شاسعة بالقوقاز في حروبها ضد حليفتها الحالية روسيا. حيث خسرت إيران في عصر القاجاريين بموجب معاهدة «تركمان جاي» 1813 غالبية أراضي جورجيا الحالية وأراضي شاسعة في القوقاز تبدأ من باكو عاصمة جمهورية أذربيجان الحالية، ولا تنتهي عند سيروان وشماخي وشكي وكنجه وقره باغ وأجزاء من مغان وطالش. كما سلخت معاهدة «كلستان» المبرمة عام 1828 مع روسيا أيضاً من إيران الأراضي كلها الواقعة شمالي نهر آرس بالقوقاز، مثل يريفان عاصمة أرمينيا الحالية. ويتفرع عن هذا الدرس درس صغير تعرفه دول العالم المختلفة ولكنه درس كبير للعرب، مفاد الدرس أن الاستغراق في «نظرية المؤامرة» و»العداوة التاريخية» لا يفيد شيئاً، بل إن التطلع إلى الأمام وبناء المستقبل هو الأبقى والأنجح.

أما الدرس الثاني والأهم، فهو أن الجغرافيا كانت ولازالت في القوقاز وغير القوقاز قدراً لا فكاك منه سياسياً واستراتيجياً، حيث يمتد القوقاز في عرض المنطقة الواقعة بين البحرين: بحر قزوين في الشرق والبحر الأسود في الغرب. ولأن الجغرافيا تجعل من منطقة القوقاز مفترق الطرق بين إيران من ناحية أولى، وتركيا من ناحية ثانية، وروسيا من ناحية ثالثة، فإنها تحتم على الدولة الجورجية أن تتموضع بمواقع بعينها في خضم الصراع المستمر على القوقاز حفاظاً على وجودها المادي المجرد. بكلمات أخرى قد تكون جورجيا حرة في اختيارها التصعيد ضد روسيا، ولكنها على الأرجح لم تكن حرة في بنية اختيارها، وهو ما يفسر خطوة الرئيس الجورجي ساكاشفيلي بالتصعيد العسكري ضد أوسيتيا الجنوبية حليفة موسكو بالرغم من الفارق الهائل في موازين القوى العسكرية بين جورجيا وروسيا. بعيداً عن حسابات ساكاشفيلي الفاشلة يبدو أن أحداث القوقاز قد غيرت بالفعل من موازين القوى الدولية، تلك التي تغيرت بانهيار الاتحاد السوفييتي، ثم تغيرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وها هي تتغير الآن بعد الحرب في جورجيا. التغير في نسق العلاقات الدولية سيعني على الأرجح أن القوات الأميركية الغارقة في وحول الشرق الأوسط لا تستطيع التدخل العسكري في القوقاز وربما غيره من المناطق الجغرافية؛ لمنع الأطراف الإقليمية المختلفة من فرض واقع عسكري ضد حلفاء واشنطن في العالم!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية  والاستراتيجية - القاهرة

back to top