العلماء والفرنسيس لخالد زياده... تنقيب في تاريخ الجبرتي
صدر حديثاً عن دار «رياض الريس» كتاب «العلماء والفرنسيس في تاريخ الجبرتي»، للكاتب والباحث اللبناني خالد زياده، الذي اعتبر أن الجبرتي أبرز وأهم مؤرخ مصري في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وقد اشتهر كتابه «تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار» بصفته مصدراً رئيساً لأحداث مصر في فترة التحوّلات قبل الحملة الفرنسية وبعدها.
يشير الباحث إلى أن كتاب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» لعبد الرحمن الجبرتي، مؤلف هام في الكتابة التاريخية، إذ يغطي مرحلة هامة من تاريخ مصر تمتد نحو قرن وربع القرن (بين عامي 1694 و1820). ويعد هذا الكتاب مصدراً رئيساً في التأريخ لهذه المرحلة الطويلة التي شهدت أحداثاً وتحوّلات حاسمة في التاريخ المصري، خصوصاً أن مصر عرفت مع بداية القرن الثامن عشر استعادة أمراء المماليك لنفوذهم وتضاؤل قوة الولاة العثمانيين، ثم ظهور المملوك علي بك عام 1767 مع ما شهده من أحداث، ثم تقاسم المملوكين إبراهيم ومراد أمور مصر من عام 1767 الى مجيء الفرنسيين عام (1798) وإقامتهم مدة ثلاث سنوات، وبروز شأن محمد علي وتولّيه الزمام (1805) حتى نهاية تاريخ الجبرتي، واستمراره لزمن طويل بعد ذلك. يرى زياده أن الاهتمام المصري بالجبرتي لا يقل أهمية عن الاهتمام الغربي، ففي الفترة التي ظهر فيها التأريخ الوطني المصري في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، تضاعفت أهمية الجبرتي وأخباره، لأن المادة التي كانت توفرها مجلدات تاريخ عجائب الآثار، سمحت بكتابة تاريخ اجتماعي لمصر المملوكية، من خلال تفاصيل كثيرة أوردها الجبرتي حول الفئات الاجتماعية وأمراء المماليك ومشايخ الأزهر والحرفيين وعامة الشعب. من هنا فإن تأريخ مصر الحديثة الوطني مرَّ في البوابة الإجبارية التي هي «تاريخ عجائب الآثار». مصادر جديدةيؤكد زياده أن قمة الاهتمام بالجبرتي جاءت في الندوة التي عُقدت في القاهرة عام 1974 وشارك فيها أبرز مؤرخي مصر، ومنذ ذلك الوقت بدأ الاهتمام بالجبرتي يتضاءل نسبياً، ليس بسبب تراجع كتابة التاريخ الوطني والانتقال إلى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، والابتعاد عن التاريخ السياسي لصالح الفئات والعادات والحياة اليومية فحسب، بل بسبب اكتشاف مصادر جديدة، تمثلت بوثائق المحاكم الشرعية خصوصاً. لكن الباحث يلفت إلى أن كتابة التاريخ لا تتبدل أو تتطوّر بتغيّر المصادر أو اكتشاف وثائق جديدة فحسب، بل تتطور من خلال اغتناء مناهج البحث وطرائقه، والنظرة إلى التاريخ نفسه وإلى المصادر التاريخية. ناهيك عن أن تاريخ الجبرتي يحتفظ بقيمته الكلاسيكية كمصدر مهم للمعلومات عن الحملة الفرنسية والفترة الأولى من عهد محمد علي باشا.وفي الدراسات التي يضمّها هذا الكتاب يرصد الكاتب المجابهة بين التأريخ التقليدي والأزمنة الحديثة، ومدى استجابة المناهج التقليدية للأوضاع المتغيرة من خلال إعادة قراءة في التراجم والأخبار على السواء.يسجّل الجبرتي، بحسب الباحث، وقائع الحملة الفرنسية بإسهاب، وإن كان موقفه منها سلبياً وعدائياً كما يبدو في «مظهر التقديس بذهاب الفرنسيس»، لكنه ينصف الفرنسيين في علومهم واتباعهم القوانين. أما موقفه العدائي منهم فيأتي على اعتبار أن الفرنسيين غرباء، لا يدينون بدين، وإن كانوا ادعوا أنهم حلفاء السلطان، لكن الأهم من ذلك أنهم عملوا على اختلال النظام القديم الذي كان الجبرتي لا يزال يأمل استتبابه.يشير الجبرتي الى أن إجراءات الفرنسيين كافة كانت تفضي إلى الاختلال: من حروب أمراء المماليك، وإعطاء العلماء أدواراً ليست لهم، إلى الاستعانة بالأقباط وترفع الأسافل وسفور النساء، وهدم الحارات وخلع البوابات. يضيف زياده أن حرص الجبرتي على النظام يدفعه إلى انتقاد الثائرين على الفرنسيين، فلم يكن الجبرتي ليقبل بهذا الخروج عن النظام، الذي رفع الأسافل وأذلّ العلماء الذين فقدوا أحد أبرز أدوارهم وهو الشفاعة لعامة الناس لدى الحكام. فقد اتُّهم العلماء بالخيانة واضطروا إلى الفرار والتواري عن الأنظار.يؤكد الباحث أن كتاب الجبرتي يكتسب أهمية مع الفترة التي أصبح فيها الأخير مراقباً للأحداث، بما في ذلك تلك التي ترجع إلى سنوات صباه وشبابه، بحيث استطاع تسجيل وقائع ثلاث حقبات كان شاهداً عليها:• الحقبة المملوكية (أو حقبة حكم الأمراء) والتي بلغت ذروتها مع حكم علي بك الكبير، وهي الحقبة التي يظهر تعاطفه معها وجزعه من النهاية التي آل إليها علي بك والمؤامرات التي أطاحته، فكانت بداية للخراب الآتي. • الحقبة الفرنسية التي استغرقت ثلاث سنوات، وعلى رغم ذلك فإنها تشغل ما يزيد على ربع الكتاب. • حقبة محمد علي باشا التي شهد وسجل فترتها الأولى حتى عام 1820. وبحسب الجبرتي فقد أحدث الفرنسيون قطيعة بين تاريخين أو زمنين ونقلوا مصر من زمنها التقليدي إلى الأزمنة الحديثة. هذه القطيعة التي كانت، كما يراها الجبرتي، بين الموروث التقليدي الذي يرجعه إلى زمن الأيوبيين والجراكسة، وبهم تأسس نظام آخر لفت انتباهه وبقي حذراً منه ورافضاً له حتى نهاية حياته.علماء التاريخكما يرى الباحث، كان الجبرتي واحداً من طبقة العلماء الكبار، وقد وضع في مطلع تأريخه فهمه لدور هؤلاء في التاريخ، وراقب انهيار النظام المملوكي، وتصدُّع دور العلماء التقليدي. وأكثر من ذلك شهد انهيار سمعة الأزهر.وعلى رغم أن الجبرتي عالم، إلا أنه يتخذ مواقف مشكّكة في العلماء والشيوخ في أكثر من مناسبة، فحين يتحدث عن محمد مرتضى الزبيدي يذكر مدى التأثير الذي ملكه هذا العالم في طلبته بعد قدومه إلى مصر، ويذكر أن أهل المغرب كان لهم اعتقاد زائد به، مشيراً الى أساليب ملتوية كان يستعملها الزبيدي ليملك قلوب هؤلاء المغاربة؛ كذلك يتهمه بنوع من المخادعة، إذ أن الزبيدي أرسل مرة إلى أحمد باشا الجزار مكتوباً وذكر له فيه أنه «المهدي المنتظر» وسيكون له شأن عظيم فصدَّقه الأخير.يفيد زياده بأن حياد الجبرتي في عرضه بعض الوقائع والأخبار وتركها من غير تعليق، يعود بالدرجة الأولى إلى اعتنائه بتسجيل ما سمعه وما رآه. لكن هذا الميل لا يخفي شكّه في بعض المنتمين إلى طرق صوفية غير التي ينتمي إليها. يضيف زياده أن الجبرتي لا يظهر مقتنعاً إلا بأولئك الخلوتيين المنتمين إلى فئته ذاتها، والتي ورثها عن آبائه وأجداده. أما الانتقادات الشديدة لبعض مدّعي الكرامات والخوارق فينبغي إدراجها ضمن موقف الجبرتي العدائي للتصوّف الشعبي العامي، حيث يبرز بين الحين والآخر دجالون متسرّعون لحيازة قلوب العامة. وعلى رغم ذلك كله فإن الجبرتي لا يستطيع إلا أن يظهر لنا اعتقاده ويقينه حين يتعلق الأمر بكرامات أئمة ومشايخ الخلوتية التي ينتسب إليها. فقد آمن بأن ثمة رجلاً يتولى القبطانية في كل زمن، ويدبِّر الأحوال والسياسات، كذلك كان يعتقد بوجود أكثر من قطب في وقت واحد إذ يختص كل واحد بشأن القطر الذي يعيش فيه.الفرنسيّونيرى زياده أن الجبرتي يقدم لنا في «تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار» معلومات تفصيلية عن إجراءات قام بها الفرنسيون. وتأتي المعلومات في سياق تأريخه للحملة الفرنسية في الكتاب المذكور. فبعد دخول الفرنسيين إلى القاهرة في يوليو (تموز) 1798 شرعوا في تكسير أبواب الدروب والبوابات النافذة، وخرج عديد من عساكرهم يخلع ويقلع أبواب الدروب والعطف والحارات، ولم يكن سكان القاهرة ليفهموا سبب هذه الأعمال، فاعتقد بعضهم أن الفرنسيين عازمون على قتل المسلمين في صلاة الجمعة. وبرزت استجابة محلية لمطالب الفرنسيين، فقد قام بعض نصارى الأروام (اليونانيين) بفتح دكاكين لبيع أنواع الأشربة والخمر. أما الفرنسيين فقد واصلوا اتخاذ إجراءات إدارية ومدنيّة في القاهرة، وعملوا على إنشاء ديوان سموه محكمة القضايا، واتخذوا سلسلة من التدابير، منها الطلب إلى الأغراب مغادرة المدينة، ومنع الأهالي من دفن الموتى في المقابر القريبة من المساكن ومطالبة التجار بوثائق تثبت الملكية، وضرورة إعطاء المواليد شهادات ولادة.وبحسب الجبرتي، كان الفرنسيون كلما أرادوا اتخاذ تدبير جديد ألصقوا أوراقاً على الحيطان في مفارق الطرق وأبواب المساجد، ونادوا في الأبواق بنشر الثياب والأمتعة، معيّنين لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف على ذلك، وذلك كله للحدّ من الطاعون.يظهر الجبرتي الريبة من إجراءات محكمة القضايا التي أنشأها الفرنسيون، ويرأى في «القواعد والأركان» التي تقوم عليها المحكمة بدعاً سيئة؛ أما شروط المحكمة حول ضرورة إثبات الملكية بوثيقة فقد رأى فيها محاولة للاحتيال. كذلك يظهر أن تبدلاً فعلياً أصاب جماعة الأقباط في تلك الفترة، وقد استمدوا من الفرنسيين القوة فصار لهم نفوذ في القاهرة، بالإضافة الى أن مظاهر التبدّل الاجتماعي أصابت النساء حين لبى بعضهم نداء التغريب واستجاب لنزعة تحررية ينظر إليها الجبرتي بإنكار واستهجان شديدين.