القسطنطينية.. آخر الفتوحات محمد الفاتح يأمر برفع السفن من البوسفور وجرها على البر لتفادي السلاسل التي سد بها الروم الطريق البحري للمدينة

نشر في 25-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 25-09-2008 | 00:00
تنسب مدينة القسطنطينية إلى الإمبراطور الروماني قسطنطين الأكبر، الذي بناها عام 324 م، وسميت باسمه وكانت قبل ذلك تسمى بيزنطة، ومنذ بداية القرن الخامس الميلادي أصبحت مركزا سياسيا، ودينيا، وقد حاولت بعض القوى ومنها روسيا الاستيلاء عليها ففشلت، وحاول العرب منذ زمن معاوية بن أبي سفيان فتحها فلم يقدروا، وتذكر كتب التاريخ أن العرب حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة، منها سبع في القرنين الأولين للهجرة، حيث حاصرها معاوية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عام 34 هـ، وحاصرها يزيد بن معاوية عام 47 هـ في خلافة علي أيضا، وحاصرها أبو أيوب الأنصاري ومعه سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة 52 هـ، وفي زمن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه حاصرها مسلمة عام 97 هـ، وحوصرت أيضا في زمن هشام بن عبدالملك عام 121 هـ، وفي المرة السابعة حاصرها أحد قواد الخليفة هارون الرشيد عام 182 هـ، حتى أذن الله لها بأن تفتح على يد السلطان العثماني محمد الثاني ابن السلطان مراد الثاني.

والسلطان محمد الفاتح هو سابع سلاطين الدولة العثمانية، ولد في 26 رجب سنة 833 هـ، الموافق 20 أبريل 1429 م، ولما تولى بعد أبيه أخذ يستعد لفتح ما بقى من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية، حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو، وبدأ يعد العدة لفتح عاصمة الإمبراطورية الرومانية في الشرق.

لما عقد السلطان محمد الثاني العزم على فتح القسطنطينية، قام بإعادة بناء الجيش وتحديثه، وبناء أسطول من السفن الحربية الحديثة، ثم قام على المستوى السياسي بعقد عدة معاهدات مع الولايات المجاورة التي كانت بينها وبين العثمانيين خصومات لكي يتفرغ لعدو واحد، وفي أوائل أبريل سنة 1453 حاصر محمد الفاتح المدينة من جهة البر بجيش يبلغ عدده 250 ألف جندي، ومن جهة البحر بأسطول مكون من 180 سفينة، وأقام حول المدينة 14 بطارية مدفعية، صفت فيها مدافع ضخمة صنعها خبير مجرى اسمه أوربان، وكان جر هذا المدفع يحتاج إلى 700 رجل، وكانت تقذف كرات من الحجر زنة كل واحدة منها حوالي 300 كج، وكان مدى مرمى المدفع أكثر من ميل، ويحتاج حشوه ساعتين من الزمن.

كانت القسطنطينية محاطة بالمياه من ثلاث جهات، مضيق البوسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي، الذي كان محميا بسلاسل ضخمة جدا تمنع دخول السفن إليه، بالإضافة إلى ذلك كانت أسوار المدينة على أعلى درجة من التحصين والمناعة، حيث كانت هناك ثلاثة أسوار مابين كل سور وتاليه حوالي 20 مترا، وارتفاع السور يصل لعشرة أمتار، وعليها عشرات الأبراج التي تكثر فيها المدافع والجنود القناصة.

في أثناء الحصار اكتشف قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد أثناء حصار القسطنطينية عام 52 هـ، في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وبعد الفتح بنى على قبره هذا مسجد، ثم جرت العادة بعد ذلك على أن كل سلطان يتولى، أن يتقلد سيف عثمان الأول بهذا المسجد، وبقيت مستمرة حتى آخر سلاطين بني عثمان.

لما شاهد قسطنطين ـ آخر ملوك الروم ـ هذه الاستعدادات، استنجد بأوروبا، فلبى طلبه أهالي جنوة، وأرسلوا له أسطولا بحريا بقيادة جوستنياني، فأتى بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فاعترضته السفن العثمانية، وقامت بينهما حرب كبيرة، انتهت بفوز جوستنياني في 21 أبريل عام 1453م، ودخوله ميناء القسطنطينية، ووضعت حامية القسطنطينية الرومية سلاسل غليظة في طريق الميناء لمنع السفن العثمانية من المرور، وشكلت هذه السلاسل مانعا صعبا أمام الأسطول العثماني للوصول إلى ميناء القسطنطينية، وبعدها أخذ السلطان محمد الفاتح يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار بحرا وبرا، فخطر في باله فكرة غريبة وغير مسبوقة، وهي أن ينقل المراكب على البر ليجتازوا السلاسل الموضوعة لمنع السفن، وكان هذا التصرف يمثل معجزة حربية غير مسبوقة في التاريخ.

أمر السلطان بتمهيد طريق على البر طوله حوالي عشرة كيلومترات، ورصت فوقه ألواح من الخشب، صبت عليها كميات من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وقام برفع المراكب من البحر فوق هذا الطريق، واستخدم مئات من الجمال والخيول لجرها فوقه، وبذا أمكن في ليلة واحدة نقل أكثر من نصف الأسطول العثماني لمنطقة الميناء بعد تخطي منطقة السلاسل، ونظر المحاصرون لهذا الأمر بكثير من الدهشة، وأيقنوا أنه لامناص من هزيمتهم، لكنهم استماتوا في الدفاع عن مدينتهم المحصنة بشكل لم يكن له مثيل وقتها في العالم.

وفي يوم 24مايو سنة 1453 أرسل السلطان محمد إلى الإمبراطور قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعا، فإنه يتعهد بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وأن يعطيه جزيرة المورة، فلم يقبل قسطنطين ذلك، بل آثر الموت على تسليم المدينة، وقدم عروضا سخية للسلطان محمد الفاتح لكي ينسحب من المدينة، فعرض عليه أموالا طائلة ودفع الخراج السنوي والطاعة له، لكن الفاتح أصر على فتح المدينة، وأعطى تعليماته إلى جيوشه ببدء الهجوم في 29 مايو، ووعد الجيوش بمكافآتهم عند تمام النصر، وبإقطاعهم أراضى كثيرة.

في الليلة السابقة لليوم المحدد للهجوم، قام الجنود العثمانية بإشعال النار أمام خيامهم، للاحتفال بالنصر المنتظر، وظلوا طوال ليلتهم يهللون ويكبرون، حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فقام نحو 150 ألف جندي وتسلقوا الأسوار، وما هي إلا ساعات حتى كانت المدينة تحت سيطرة الجيش الإسلامي، ودخلوا كنيسة أيا صوفيا، وكان البطريرك يصلي، فشاعت إشاعة بأن جدار الكنيسة قد أنشق ودخل فيه البطريرك والصور المقدسة، وفي اعتقادهم أن الحائط سينشق مرة ثانية يوم يخرج المسلمون منها، ويخرج البطريرك ليتم صلاته التي قطعها عليه دخول الجيش الإسلامي للمدينة !!

أما قسطنطين فقد قاتل حتى لقى حتفه، ثم دخل السلطان عند الظهر إلى المدينة، فوجد الجنود قد انشغلوا بالسلب والنهب، فأصدر أوامره بمنع أى اعتداء، ومعاقبة كل من يعيث فسادا بالمدينة، ثم وصل إلى كنيسة آيا صوفيا، وأمر بأن يؤذن للصلاة فيها، وجعلها جامعا للمسلمين (بعد إلغاء الخلافة تحولت لمتحف)، وأعلن أنه لا يعارض إقامة شعائر صلوات المسيحيين، وأعطاهم نصف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين، ثم جمع أئمة الدين المسيحي لينتخبوا بطريركا لهم، فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب وجعله رئيسا لطائفة الروم، وأعطاه حرسا من عساكر الإنكشارية، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بجميع أنواعها الخاصة بطائفته، وعين معه في ذلك مجلسا مشكلا من أكبر موظفي الكنيسة، وبعد تمام الفتح جعلت عاصمة للدولة العثمانية، وأطلق عليها إسلامبول والتي أصبحت بعد ذلك أسطنبول.

back to top