قاطرة الدم والحماقات

نشر في 18-06-2008
آخر تحديث 18-06-2008 | 00:00
 بلال خبيز تنتقل الاشتباكات الصغيرة في لبنان من منطقة إلى أخرى، والأشد هولاً من الاشتباكات المباشرة ما يحصل من تحولات ديموغرافية في بيروت والمناطق، حيث بات يصعب على اللبناني الشيعي السكن في منطقة يغلب على سكانها الانتماء إلى الطائفة السنية أو الدرزية. أما في المناطق ذات الغلبة المسيحية فغير خاف على أحد أن الاختلاط الطائفي رقيق الحاشية، إذ تكفلت عقود الحرب الأهلية السابقة في تغيير طبيعة تلك المناطق الديموغرافية.

على هذا ثمة خطوط تماس تصان في ليل لبنان، وثمة شبان يسهرون لياليهم يحرسون حسن وسلامة صفاء المناطق الطائفي، والحؤول دون الاختلاط مرة أخرى. ومن نافل القول أن ما جرى طوال السنوات الماضية وجاءت غزوة «حزب الله» وحلفاؤه لبيروت في 7 مايو الماضي لتتويجه، بات يؤثر في شكل مباشر على التجارة والأعمال. فأصبح رب العمل السني يفضل توظيف عمال من طائفته ويتجنب توظيف عمال من الطائفة الشيعية، ولم يعد سائق التاكسي المنتمي إلى طائفة ما يستطيع أن ينقل ركاباً إلى منطقة لا غلبة لطائفته فيها خوفاً من التعرض له.

لبنان ينجز أعماله بسرعة. خصوصاً تلك الخسيسة منها. فحتى العراق لم يصل إلى هذه الحال التي يعيشها اللبنانيون اليوم إلا بعد لأي وأنهار من دماء الأبرياء. لكنه لبنان، مستعجل على الدوام، وملول إلى حد الغضب. وفي كل الأحوال، ليس في الاستعجال اللبناني ما يشرف أحداً، لا في القيادات السياسية المتمسكة باتفاق الدوحة، بوصفه فرصة لتجنب الحرب الأهلية ولا في أهل الطوائف الواثقين من انتصاراتهم والذين يستعجلون الانفجار. إنها في ما يبدو لحظة من لحظات الهياج الجماعي، التي تحجب أول ما تحجب صوت التعقل، حيث يصبح التاجر وسائق التاكسي والأستاذ الجامعي مستعدين جميعاً لقتل جيرانهم المنتمين إلى طائفة أخرى، بوصفهم أعداء، وفي الوقت نفسه يكون كل اعتداء عليهم جريمة لا يمكن غفرانها.

بعض السياسيين في لبنان لا يتورع عن التصريح بأن ما جرى في هذه المنطقة أو تلك من أعمال شغب إنما كان رداً ثأرياً، على استفزاز الجماعة الأخرى، وأن الحل يكمن في توقف الجماعة الأخرى عن الاستفزاز وفي نزع سلاحها. أما سلاح الثائرين الثأريين فيجب أن يصان ويُحتفى به، أقله إلى حين التأكد من نزع أسلحة الفريق الخصم. وعلى قاعدة الحق بالثأر تبنى بعض سياسات البلد اليوم. وهذا يعني أول ما يعني، أن السياسة اللبنانية ارتدت مرة أخرى إلى ما دون السياسة، وأن أجهزة الدولة باتت أعجز من أن تحمي الأبنية الرسمية والوثائق المحفوظة في أدراجها.

لبنان تحت السياسة، واللبنانيون غارقون حتى آذانهم في ادعاء امتلاكهم آراء. فيقتل الجار جاره، بحجة محاربة الإمبريالية، ويمنع صاحب الدكان زبوناً من شراء ما يحتاجه بحجة محاربة الطائفيين ودعاة الطائفية المقيتة. والكل في لبنان ضحايا، حتى أولئك المدججون بأسلحتهم والمتنعمون بأموال المجهود الحربي الإيراني. الكل ضحايا، ومن حق الضحايا دائماً وعلى مر العصور الدفاع عن أنفسهم. ولأن الكل ضحايا تتحول الجرائم اليومية التي تحصل في لبنان، إلى نوع من رد الاعتبار الثأري. فكل قتيل هو مغدور ومستفرد وكل مهجر هو مظلوم وممنوع من ممارسة عيشه العادي. وبهذا تصبح الحرب التي يخوضها اللبنانيون في ما بينهم حرب الضحية على الضحية، ويصبح القتل من مهمات المقتولين، وتتحول الخطب السياسية والمؤتمرات الصحافية إلى حفلات تأبين للضحايا المغدورين.

قراءة صحف لبنان اليومية تكاد تبعث على الخوف. فهذه الصحيفة تكتب عن حادثة كان ضحيتها شاب سني، تم الاعتداء عليه، والأخرى تكتب عن حادثة أخرى كان ضحيتها شاب شيعي ضرب ضرباً مبرحاً وطعن بالسكاكين. وكل صحيفة لها ضحاياها وشهداؤها، أما الآخرون الذين يسقطون ثأراً للضحايا والشهداء، فليهتم بهم أهلهم، وليقيموا لهم حفلات العزاء. إذ ليس من مهمة صحف المعارضة أن تتحدث عن قتلى الموالاة وليس من مهمة صحف الموالاة أن تنعى قتلى جمهور المعارضة.

مع ذلك ثمة بين السياسيين من يحسب أن توزيره متسلماً حقيبة سيادية فيه شفاء البلد من مرضه العضال، ووضع القاطرة على السكة الصحيحة، والحق أن لبنان ومنذ عهد الفرنسيين لم يعد يعتمد القطارات وسيلة من وسائل النقل مثلما هو حاصل في سائر بلدان العالم. وأن القطار الوحيد الذي مازال يسير في البلد هو قطار الحماقات التي تغلي في عروق السياسيين والذي يسيّر بالدماء والعذابات اليومية بدلاً من الفحم الحجري الذي يندر وجوده في لبنان.

* كاتب لبناني

back to top