تربية الحقد

نشر في 14-01-2009
آخر تحديث 14-01-2009 | 00:00
 بلال خبيز في الوقائع: يتظاهر عدد كبير من اليهود في المدن الأميركية دعماً لإسرائيل. هل يريدنا هؤلاء أن نصدق أن صواريخ القسام تهدد إسرائيل حقاً؟ ولو صدقنا ذلك، فكيف يسع هؤلاء تجاهل واقعة أن نيران الجيش الإسرائيلي تقتل الناس في غزة؟

حقوق الإنسان؟ أي حق هذا الذي يبيح لأي كان أن يستبيح قتل شعب بدعوى أن أمنه مهدد من بعض أفراد هذا الشعب؟ لطالما عرفنا أن المسألة تبدأ وتنتهي في المحاججات السياسية. هذا ينطبق على حركة «حماس» وينطبق على الجيش الإسرائيلي وقيادته السياسية.

في إسرائيل، ثمة مناقشات حامية: هل قادنا ثالوث القيادة إلى حرب تعرض أمن المدن الإسرائيلية للخطر من أجل تحقيق نسبة أعلى من الأصوات في الانتخابات المقبلة؟ المجتمع الإسرائيلي منذ بداية المعركة، منذ بداية التخطيط على ما تدعي يديعوت أحرونوت، أبدى استعداده للتضحية ببعض الأرواح، لكن شرط قبول التضحية أن يقود السياسيون المعركة بوصفها معركة من أجل الوطن وليس من أجل المناصب الحكومية وصناديق الاقتراع. في الجهة المقابلة: سؤال لم يتغير منذ 1948: أين العرب؟ هل حان وقت الاستفاقة العربية؟ السائلون ينسبون إلى أنفسهم بعض التنصل من عروبتهم، يكونون عرباً بمقدار ما يُدخل القادة العرب، في حملة الدفاع عن الشعب الفلسطيني، شعوبهم وجيوشهم في المعركة الحاسمة.

المسألة تقع أيضاً في السياسة أولاً وأخيراً ولطالما عرفنا ذلك، هذا بيان يفترض أن الرابطة العروبية الوحيدة الممكنة التي تجوز هي رابطة الثأر. إنه منطق الضحية، المنطق الذي غلب على الفكر الحديث منذ الهولوكوست على أقل تقدير. ربما أيضاً منذ صلب المسيح في القدس، وبطرس الصخرة في روما. منذ ذلك الحين، دخل الثأر عنصراً حامساً ومرجحاً في السياسة اليومية. وعلى الأرجح أن مباني الدول الحديثة والروابط الإثنية تمت إلى منطق الثأر بأوثق الصلات، إنما هل يحق للفلسطينيين المطالبة بالثأر أيضاً؟

المعضلة ليست في الثأر في حد ذاته، هذا شعور لا راد له، إنما يستطيع الزمن أن يخفف من حدته، فالمعضلة تكمن في السياسة التي تُبنى على أساسها الروابط القومية والوطنية... الرابطة التي تعيد تمثيل الجريمة كل يوم، في المدن الأميركية تظاهر اليهود ومناصروهم ليس لأن «حماس» تهدد الشعب اليهودي في فلسطين المحتلة، بل لأن ثمة اضطهادا تاريخيا حاق باليهود في غير مكان. إسرائيل ومناصروها ينتقمون من الفلسطينيين، لأنهم يملكون الحق بتربية الحقد على غيرهم، حتى حين تكون صواريخ «حماس» غير قادرة على الإيذاء وتشبه في ما تشبه تصريحات أحمدي نجاد، فإن الحق بتربية الحقد وتنمية الكراهية يجيز للإسرائيليين تشغيل آلة القتل في جسد من يعتبرونه عدواً.

الاشتغال بالسياسة كان على الدوام منتجاً وفاعلاً حين يستجدي إيقاظ مشاعر الكراهية وعزف ترانيمها، على الكراهية تنبني الإجماعات وعلى الكراهية يتم تخوين الذين يريدون التفكير قليلاً قبل الضغط على الزناد. أن ينتصر باراك في الحرب على غزة، يعني أن يجعل الوجع الفلسطيني أشبه بكي الذاكرة. حياً ومتذكراً، وبسبب من حيويته وإقامته المديدة في الذاكرة يمتنع الفلسطينيون مستقبلاً عن تهديد أمن المستوطنات. والحال، لا بد أن الوجع الفلسطيني هائل الوقع على الفلسطينيين أنفسهم، أصلاً هو هائل الوقع على العرب جميعاً، مما يعني أن العودة إلى محاولة تهديد أمن إسرائيل من قبل أي طرف فلسطيني بعد هذه المذبحة المتواصلة، لن يصدر إلا عن طرف من اثنين: واحد غض الذاكرة أو ضعيف الانتساب إلى الذاكرة الفلسطينية الجامعة، وآخر يجري حسابات متجددة ويخرج من حساباته باعتقاد أنه يستطيع إذا ما اشتعلت الحرب مرة أخرى أن يدمر إسرائيل، ويرتكب مجازر في حق سكانها، لكن الفلسطينيين، العرب معهم، يعرفون أن مثل هذا الاحتمال بعيد المنال، وأن جل ما تريده إسرائيل من هذه المذابح هو تأجيل الرد الفلسطيني بضعة أعوام أخرى ليتسنى للجرح الفلسطيني الغائر أن يلتئم قليلاً، وليتسنى للبعض نسيان التاريخ.

هكذا، تريد إسرائيل من فصد الدم الفلسطيني في غزة أن تحذر أهل الضفة وتكوي ذاكرتهم بالحديد والنار. تقتل الناس، من دون تمييز في الشجاعية وحي الزيتون من أجل أن يتألم أهل جنوب لبنان أيضاً.

فالألم بوصفه أهم الروادع البشرية على الإطلاق مهارة لا يجيدها الموتى والشهداء، إنها من اختصاص من بقي حياً، وإسرائيل تريد أن تمثل بجثث الموتى ليتألم الأحياء، على هذا يتظاهر اليهود دعماً لإسرائيل لأن السياسة تنبئهم بأن المهم بات ماضياً، ويقتل الجيش الإسرائيلي أهل غزة لكي يكون الألم هو مستقبل الفلسطينيين.

* كاتب لبناني

back to top