تجارة المجازر

نشر في 31-12-2008
آخر تحديث 31-12-2008 | 00:00
 بلال خبيز منذ انقلاب حركة «حماس» على السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، والفلسطينيون في القطاع يعانون حصارات متعددة... الفلسطينيون جميعاً وأينما كانوا يعانون حصارات خانقة، لكن فلسطينيي غزة في ظل حكم «حماس» غير المرغوب فيه من العالم كله، تقريباً، أصبحوا من دون بدائل من أي نوع، وأرجح الظن أن قادة حركة «حماس» شعروا بألّا ضوء يلوح في نهاية نفق الحصار.

فمن جهة أولى ثمة العدو الإسرائيلي، حيث ينعدم الأمل في التفاهم معه، ومن جهة ثانية ثمة الجوار المصري الذي مازال يصر على التعامل مع شرعية فلسطينية تحكم نصف حكم في الضفة الغربية، ويعترف بها العالم كله نصف اعتراف. ومع أن الاعتراف والحكم ناقصان في الضفة الغربية، إلا أن حركة «حماس» التي تحكم حكماً كاملاً وتفتقر افتقاراً حقيقياً لأي اعتراف بشرعية حكمها، وجدت أن نصف الحكم ونصف الاعتراف أفضل من الحكم الكامل والاعتراف المفقود. وبغض النظر عن سخونة الشعارات التي يطلقها قادتها، إلا أن ما يبدو ملحاً لها وحيوياً كحيوية المياه لمسافر في الصحراء، هو بالضبط شيء من الاعتراف بشرعية الحكم «الحمساوي».

لهذا ربما كانت صواريخ القسام تنهال على المستوطنات الإسرائيلية في وقت كانت خطابات قادة الحركة تقصف السياسة المصرية بأعنف قذائفها اللفظية، وتحاول ما أمكنها أن تقوض شرعية سلطة محمود عباس. ولم يفت الساسة المصريون والعرب عموماً أن «حماس» تستعد لتحويل اتجاه بندقيتها على نحو خبرته مصر جيداً في التعامل مع الأصوليين الذين خاضت مصر صراعات عنيفة في مواجهتهم منذ اغتيال الرئيس أنور السادات على أقل تقدير.

اغتيل الرئيس المصري السابق على خلفية اتفاقية كامب ديفيد، لكن الإسلاميين الذين فتحوا مصاريع النيران والدماء في مصر طوال عقود حالكة، ما لبثوا أن نقلوا معركتهم من الحدود المصرية-الإسرائيلية، إلى مقاتلة الحاكم الظالم الذي لا يحكم بما أنزل الشرع، ثم قتل السياح الأجانب، في مجازر مشهودة، وصولاً إلى إصلاء الأقباط المصريين أشد درجات العداوة وأكثر النيران وهجاً. وعلى منوال هذه الحركات الأصولية الجهادية المصرية، تحاول حركة «حماس» اليوم حث خطاها. ذلك أن المدقق في السلوك الحماسي لا بد أن يلحظ أن التحضير للمعركة مع مصر قطع أشواطاً طويلة في الشهور القليلة الماضية. حيث تحول الحصار المفروض على قطاع غزة من مسؤولية إسرائيلية في الدرجة الأولى إلى مسؤولية مصرية، وفق مفهوم الحركة. ومارست حركة «حماس» كل ما تجيده من ضغوط لفك الحصار من الجهة المصرية وليس من الجهة الإسرائيلية أو الفلسطينية.

كانت الحركة تريد أن تكتسب شرعية الاعتراف المصري بها تمهيداً لاستكمال معركتها ضد سلطة محمود عباس في الضفة الغربية وليس ضد إسرائيل قطعاً.

مصر من جهتها تدرك أن التسليم بشرعية سلطة «حماس» في قطاع غزة ليس شأناً فلسطينياً بحتاً، فمثل هذا التسليم يعني في واقع الأمر أن مصر ستجد نفسها مضطرة ليس لتسليم مقاليد علاقتها بالفلسطينيين لسورية فقط، بل أيضاً القبول بتدخل سوري في الشؤون المصرية الداخلية، والذين يعرفون طبائع التدخل السوري، ومصر تعرفه جيداً، يدركون أن القبول بهذه الشروط التي تضعها حركة «حماس» على رأس مطالبها، تعني في المقام الأول، أن الداخل المصري بات عصياً على التحكم فيه، وأن مصر نفسها تحولت إلى ساحة أخرى من الساحات التي تجيد سورية اللعب فيها وعليها وبيعها وشرائها ساعة تشاء. والأرجح أن مصر التي دفعت غالياً في صراعها مع الحركات الإسلامية الجهادية لن تسلم أوراقها بالسهولة التي تظنها إيران وسورية، رغم أن الدم الفلسطيني يصرخ فوق رؤوس الجميع، وفوق مصر بصورة خاصة.

تتهم حركة «حماس» وداعموها السلطة المصرية بأنها تستهين بالدم الفلسطيني ولا تبالي بجريانه. ذلك أن المطلوب من مصر وفق هذه المعادلة ليس أقل من الرضوخ للدم الفلسطيني النفيس. في وقت يتصرف قادة «حماس» كما لو أنهم يمكلون وكالة شرعية وإلهية تعطيهم الحق المطلق بإراقة الدم الفلسطيني على الوجه الذي يريدون، وهم من يختارون من يعفون من موجباته ومن يريدون تحميله مسؤولية هذا الدم.

إذا كانت جريمة مصر أنها ترفض فتح معبر رفح كيفما اتفق، وعلى هذه التهمة يتم تحميلها وزر الدم المراق، فما الذي يجعل «حماس» بريئة من دم الفلسطينيين وهي من قرر إنهاء اتفاق التهدئة وبادر إلى قصف المستوطنات؟ هذا سلوك أقل ما يقال فيه أنه متاجرة بالدم، كما لو أن قادة «حماس» ورثوا الحق بإراقة الدم الفلسطيني كما يرث الابن أملاك أبيه.

* كاتب لبناني

back to top