ما قل ودل: إلا كرامة القضـاء

نشر في 02-02-2009
آخر تحديث 02-02-2009 | 00:00
 المستشار شفيق إمام قبل سبعين عاماً ويزيد توجه رئيس مجلس القضاء وأول رئيس لمحكمة النقض المصرية، المستشار عبدالعزيز فهمي، رحمة الله عليه، إلى قصر عابدين، ليقدم إلى الملك فؤاد الأول استقالته من منصبه الرفيع، احتجاجاً على مناقشة مرتبات القضاة في مجلس الشيوخ، أثناء مناقشة الميزانية، وهو الاحتجاج الذي كان قد أثبته في محضر جلسة المحكمة عند افتتاحه لها في صباح اليوم ذاته، وكانت كلمته الحاسمة «إلا كرامة القضـاء».

صدق عبد العزيز فهمي، فالقضاء في كل أمة من أعز مقدساتها، وهو الحصن الحصين للحقوق والملاذ الأمين للحريات، والميزان الذي يحقق العدل ويرسي المشروعية ومبدأ سيادة القانون.

الدعوى المقامة من القضاة

تذكرت هذا الموقف الذي وقفه شيخ قضاة مصر في الثلاثينيات، عندما طالعت الصحف اليومية، التي نشرت على ثلاث صفحات، صحيفة الدعوى المقامة من بعض رجال القضاء وأعضاء النيابة العامة ضد رئيس مجلس الوزراء ووزير العدل ومجلس الخدمة المدنية لعدم تنفيذهم قـــرار المجلس الأعلى للقضاء بزيادة رواتبهم وبدلاتهم وعلاواتهم الخاصة.

حق التقاضي مكفول للكافة

ولا يختلف أحد في أن حق التقاضي من الحقوق الدستورية التي كفلتها المادة (166) من الدستور لكل فرد، وهو مستمد من حرية الدفاع التي هي أصل الحقوق والحريات جميعاً، بل هي أقوى هذه الحريات، لأنه بغيرها لا تستطيع أن تمارس حقوقك وحرياتك الأخرى، فهي التي تخولك الذود عن أي مخاطر تتعرض لها هذه الممارسة، فهي حق طبيعي لصيق بالإنسان، وهي سابقة على نشأة الجماعة حتى في تشكيلاتها البدائية، وسابقة على الأديان والقوانين، التي نزلت وشرَّعت لتنظيم ممارسة الإنسان لحرياته وحقوقه حتى لا تصطدم بحريات وحقوق الآخرين أو بالقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تبنتها، وتصل حرية الدفاع إلى أرقى مستوياتها الإنسانية حين تتجسد في حق التقاضي في ساحات المحاكم حيث الحجة والجدل وصولاً إلى حكم هو عنوان الحقيقـة.

حق القاضي في حق التقاضي

لهذا لا يجوز أن يحجب عن القضاء هذا الحق، أو يكون حائلاً دونه تقاليد قضائية تلزم القاضي بأن يلزم نفسه، بما لا يلتزم به الآخرون، من قواعد السلوك الاجتماعي والأخلاقي التي تشكل وجدانه وضميره، والتي تجعله دائماً مثالاً يحتذى به في التحكم في العواطف والموضوعية والتجرد، بعيداً عن مغالاة الفقه الإسلامي في حث القاضي على التنزه عن طلب الحوائج، وإن كانت في عرف الناس من الأمور التي لا تخدش الكرامة ولا تمسها بسوء، فإنهـــا في حق القضــــاء منقصة في نظــر هذا الفقــــه تقديرا منه لمكانة القاضي، وسمو رسالته التي حملها الأنبياء والرسل قبله، ولا نذهب إلى هذه المغالاة ولا نتفق معهــا في زماننا الذي أصبحت الحياة الكريمة للقاضي ولأي موظف عام مطلبا بعيد المنال.

ولعل ذلك ما دعا الإنكليز إلى أن يتركوا للقاضي شيكا على بياض ليدون به وبخطه مرتبه شهرياً، في إطار تقاليد عريقة، ألزم فيها القاضي نفسه بنفسه، بالمرتب المعتاد لهذه الوظيفـة.

أحكام اختص بها رجال القضاء

ومع ذلك فإن المشرع لم يفته إدراك هذه الحقائق المتعلقة بعلو الوظيفة القضائية وسمو مكانتها فاختص رجال القضاء بأحكام تحفظ لهم مكانتهم الاجتماعية والوظيفية، فلا يجوز في غير حالات الجُرم المشهود اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق أو القبض أو رفع الدعوى الجزائية على القاضي أو عضو النيابة العامة في جناية أو جنحة إلا بإذن من المجلس الأعلى للقضاء بناء على طلب النائب العام، كما اختص المجلس بالنظر في حبس القاضي أو عضو النيابة العامة وتجديد حبسه أو أن يأمر باتخاذ إجراء آخر، كما تختص دائرة التمييز المنوط بها نظر الطعون الإدارية بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة العامة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شؤونهم الوظيفية والفصل في طلبات التعويض عن تلك القرارات، كما تعتبر الأحكام الصادرة في هذه الطعون أحكاماً نهائية لا تقبل الطعن بأي طريق من طرق الطعن.

القضاء وحرية الصحافة

وإذا كان القضاء يؤدي رسالته في وضح النهار وفي جلسات علنية- بنص الدستور- تحقيقاً لديمقراطية القضاء وللشفافية التي يجب أن تتسم بها أعماله وتدعيما للثقافة القانونية في المجتمع، خصوصاً أن العلانية تعد ضمانة أساسية للعدالة شأنها شأن حق الدفاع واستقلال القضاء.

إلا أن ما جرى على صفحات الصحف، من نشر صحيفة الدعوى كاملة حيث ملأت ثلاث صفحات في جريدة يومية، تخللتها عناوين مثيرة منها على لسان المدعين: «دعوانا ليست عادية بل مطالبة بصوت عال بحقوقنا المسلوبة كأعضاء سلطة قضائية»، هو أمر لم يعودنا عليه القضاء الشامخ الذي تصدر أحكامه بصوت خافت، ولكنها تزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة، وكم كنت أتمنى لو أقيمت الدعوى بصوت خافت من قاض واحد، والحكم فيها كان سيشمل الجميع.

نعم هي ليست دعوى عادية، لتخوض فيها الصحافة، بالشكل المثير الذي عُرضت به، ولتتناولها أقلام العواميد، بالشكل الذي تناولتها بـه، وأن تنشر مع صحيفة الدعوى لوحة بأسماء ودرجات ورجال القضاء والنيابة العامة، المئة والاثني عشر، المدَّعين في هذه الدعوى.

ولذلك أتمنى للدكتور إسماعيل الشطي، مستشار سمو رئيس مجلس الوزراء، أن يوفق في مهمته التي كلفه بها سموه، في الوصول إلى حل عادل لمطالب القضاة، وهو أهل لما كلف بـه.

back to top