من هنا... وهناك

نشر في 29-03-2009
آخر تحديث 29-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان في الخمسينيات والستينيات كان بوسعك أن تعرف ما في جيب جارك، وأن تتأكد أن طعامه لا يختلف كثيراً عن طعامك، وأنه مثلك يحلم بالرخاء العام ويغني مع عبدالحليم حافظ وصلاح جاهين للترع والمصانع والسد العالي. كنا فقراء في ذلك الوقت لكننا في قرى مصر ومدنها لم نشعر أبدا بذلك الفقر، ولم نشكُ منه أو نتحدث عنه لأسباب عديدة، منها ندرة أو غياب الأغنياء خاصة في القرى. والغني هو الذي يحدد الفقر ويجسده ثم تقارب الأجور والدخول والأحلام والهموم أيضا، ومنها أخيرا ذلك التكافل الذي كانوا يواجهون به الشدائد في القرى والأحياء الشعبية قائلين «اللقمة الهنية تكفي مية» و«جارك جدارك» أي يستر ويحمي ويصد عنك الأذى، فالقناعة في ذلك الزمن كانت كنزا والرضا عبادة والتفكير في قوت الغد كفر برحمة الله وقدرته.

ثم تبخر كل ذلك في منتصف السبعينيات بسياسات الانفتاح والتحول الاقتصادي وشيوع النزعة الاستهلاكية والرغبة في الإثراء السريع، ومن ثم ميلاد القطط السمان في أواخر السبعينيات ثم التماسيح والحيتان والغيلان وكل أنواع الوحوش التي احتكرت ونهبت وأفسدت وأشاعت الفساد، وجعلته محورا لمنظومة القيم الجديدة، ولثقافة مد اليد التي تحرك المجتمع الآن وتوجهه، وأشير هنا إلى تقرير مركز الدراسات الريفية الذي صدر بعنوان «الفساد في مصر لعام 2008» ويرصد ارتفاع مؤشر الفساد المالي والإداري في القطاعات والوزارات المختلفة، والذي أدى إلى إهدار أكثر من 39 مليار جنية في الفترة من إبريل 2008 حتى يناير 2009، أي في نفس الوقت الذي انفجرت فيه أزمة الغذاء وامتدت طوابير الخبز وعانى المواطنون انفلات أسعار غير مسبوق، ومن سعي الدولة إلى تعظيم مواردها على حسابهم باللجوء إلى الجباية ومضاعفة الرسوم والضرائب بسبب الأزمة المالية العالمية وعواصفها، التي ضربت قطاع السياحة، وقلصت تحويلات المصريين العاملين في الخارج وعائدات قناة السويس والنشاطات الاقتصادية الأخرى.

وكان على الدولة أن تنشغل بمحاربة غول الفساد الذي أدى إلى إهدار هذه المبالغ الهائلة، وإلى إعادة النظر في منظومة الأجور التي اختلت بشكل فاضح في الأعوام الأخيرة، وأدت إلى تقاضي بعض الموظفين المحظوظين رواتب بلغت مئات الآلاف من الجنيهات، وإلى ظهور الموظف المليونير براتبه الخرافي إلى جانب الموظف الآخر الطبيب أو المهندس أو المدرس أو الصحافي أو القاضي الذي لم يعد راتبه يعينه على مواجهة عواصف الأسعار أو الاحتفاظ بهيبته وكرامة مهنته.

هذا الواقع المتردي كان ولايزال سبب الاحتقان وتململ الشارع وغليانه وسلاسل الاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات الفئوية التي بلغت ألفاً في العام الماضي وحده، ومن المتوقع أن يتصاعد عددها وحدّتها في الشهور المقبلة بسبب احتدام الأزمة المالية العالمية وتدحرجها، وتعاظم تأثيرها على معظم النشاطات الاقتصادية وتسريح المزيد من العاملين في الداخل والخارج، «في الشهور الأخيرة سرح 188 ألف مواطن من وظائفهم، ومن المتوقع أن يسرح نصف مليون عامل في الشهور المقبلة».

ومن المثير أن بعض الجهات والمصالح الحكومية تفكر بدورها في الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملين فيها، وقد أعلن رئيس رابطة مأموري الضرائب في الأيام الأخيرة أنه تلقى ردا إيجابيا من كبار مسؤولي وزارة المالية حول عدم تسريح 36% من العمالة كما ورد في التقرير المالي لعام 20072008 بدعوى ارتفاع تكاليف التحصيل.

تعاظم البطالة يعني اكتظاظ الشوارع بالعاطلين الغاضبين القادرين على التدمير في أي وقت وفتح بوابات الجحيم، وأذكّر هنا بحرب الخليج وعودة ملايين المصريين العاملين في دول الخليج والعراق إلى بلادهم في أوائل التسعينيات وانضمامهم إلى طوابير العاطلين وتصاعد موجات العنف والإرهاب في تلك الفترة.

هذا الواقع الملتهب بحاجة إلى سياسيين حكماء وحازمين ومطلعين على أحوال المجتمع ومشاكله، وليس إلى الهلامية السياسية أو لرجال أعمال لا يرون كامل اللوحة المجتمعية وينشغلون بالعابر والجزئي، ومن ثم يتخبطون ويصدرون قرارات عشوائية يُجبَرون على سحب بعضها أو التراجع عنها تحت وطأة الاحتجاجات والإضرابات، ويتصورون أن أجهزة الأمن قادرة في كل الأحوال على إطفاء الحرائق التي يشعلونها.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top