تحرير رقبة

نشر في 23-02-2009
آخر تحديث 23-02-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي لم يغب لفظ الحرية ومشتقاته في القرآن الكريم، بل ورد في سياق الحضارات القديمة، فارس والروم، الحرية في مقابل العبودية، والحر في مقابل العبد، وورد لفظ تحرير خمس مرات في القرآن بمعنى تحرير الرقاب أي تحرير الرق أو تحرير الأسرى. وقد بقي رق الأفراد حتى القرن التاسع عشر في الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب، وبقيت معركة حقوق الإنسان والمساواة بين الأجناس في الحقوق والواجبات والتي ظلت حتى النصف الثاني من القرن العشرين، واستأنف رق الأفراد في رق الشعوب في موجات الغزو الاستعماري الغربي الحديث، استعباد شعوب بأكملها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ومازالت بقاياه في القرن الحادي والعشرين في غزو أفغانستان والعراق، ومازال الغزو الصهيوني لفلسطين قائما منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن.

لم يكن من السهل إلغاء الرق بتشريع لأنه كان مؤسسة اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية، وكان جزءاً من البنية الاجتماعية، بل كان الهدف هو إلغاؤه من النفوس والوعي والوجدان حتى يتحرر الإنسان من استعباد الآخرين، فتحرير السيد من الاستعباد سابق على تحرير الرق من العبودية.

والصورة القرآنية «تحرير رقبة» وكأن العبودية هي عبودية للرقاب، والرقبة رمز العزة والكرامة والحرية، مرفوعة أو مطأطأة، فهي التي تحمل الرأس، وهي أضعف جزء في جسد الإنسان، تضرب بالسيف أو تخنق باليد، فمن قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير رقبة مؤمنة للإيحاء بأن إبقاء العبد في عبوديته يعادل القتل «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»، فإن كان المقتول خطأ من قوم عدو، وهو مؤمن فتحرير رقبة أيضاً لا فرق بين أعداء وأصدقاء، فالحرية تتجاوز الأوضاع السياسية «فَإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»، وإن كان من قوم معاهدين فتحرير رقبة أيضا لأن الرق يساوي خرق العهد «وَإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»، فإذا كان هناك لغو في الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فالرق ذنب يعادل اللغو في الأيمان «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»، ومن يظاهر امرأته ثم يعود إلى ما ظاهر من أجله ولا يستطيع الالتزام بإرادته فعليه تحرير رقبة، حتى يتعود على قوة الإرادة، فالاستعباد ضعف في الإرادة، وخيانة للعهد الإنساني «وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ».

وفي القصاص كان الشرع أولا الحر بالحر والعبد بالعبد، والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى»، ثم نسخ بعد ذلك النفس بالنفس بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي أو النوع الجنسي للإنسان، فالحياة حياة، والروح روح، لا فرق بين نفس الحر ونفس العبد، ولا بين روح الذكر وروح الأنثى.

والتحرير مظهر من مظاهر الكمال الإنساني، فقد نذرت مريم ما في بطنها لله محرراً أي خالصا كاملا «إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً». وهو ما يقصده اللاهوت المسيحي بأنه مخلص من الخطيئة، فهو كلمة الله وروح منه، خال من غواية الشيطان، فالمسيح نموذج المتحرر من أهواء البشر وانفعالاتهم خالصا لوجه الله.

وقد تأتي صورة «فك رقبة» دون لفظ تحرير ولكنها تعني نفس الشيء، فالعقبة هي فك رقبة، اجتياز مانع، مانع العبودية «وَمَا أدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ»، وصورة الأسير أنه «في الرقاب» يستحق الصدقة مثل المساكين وابن السبيل والسائلين «ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ»، فالأسير له حق حسن المعاملة، الطعام والشراب والإيواء، وليس التعذيب والتجويع والإيذاء.

الأسرى تتكفل بهم الدولة مثل الموظفين فيها والمؤلفة قلوبهم «إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ»، وهو ما تنص عليه المواثيق الدولية لحقوق الأسرى وحمايتهم.

وفي السجون الإسرائيلية أحد عشر ألف أسير فلسطيني بلا حقوق، وفي معسكر الاعتقال الأميركي غوانتانامو مئات من المعتقلين السياسيين بلا محاكمة، وفي سجون كثير من الدول مسجونون سياسيون بلا حقوق، فمتى تفك رقابهم تكفيرا عما يقوم به سجانوهم من آثام التعذيب والاعتقال بلا محاكمة ولا دفاع؟ فقد تحول الرق الآن من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، من الرق بمعنى العبودية نتيجة للملكية إلى العبودية بمعنى استرقاق الأفراد في السجون واسترقاق الشعوب بالغزو، وكلاهما يفيد معنى فقدان الحرية، وإن اختلفت الوسائل: الملكية أو الطغيان.

* كاتب ومفكر مصري

back to top