أبعاد الحوار الاستراتيجي بين مصر وتركيا 1- 3

نشر في 18-09-2008
آخر تحديث 18-09-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد دخلت عمليات صنع السياسة الخارجية في المنطقة مرحلة جديدة في تاريخها بعد إجراء جولة الحوار الاستراتيجي الأولى بين مصر وتركيا في أنقره قبل أيام، لأنها المرة الأولى في تاريخ العلاقات بين العرب والأتراك البالغ عمرها ألف سنة على الأقل؛ والتي يتم فيها الحديث بشكل علمي وعقلاني عن المصالح الوطنية لكل طرف. وهكذا انتقلت العلاقات العربية-التركية عموماً، والمصرية-التركية خصوصاً، نقلة نوعية كبيرة حيث لم تعد العلاقات الثنائية مع تركيا مرتبطة بتطورات موسمية أو رغبات آنية؛ بل بمصالح ومشروعات وتوازنات، وكلها لب ومحتوى السياسات الخارجية للدول الساعية إلى تعظيم مصالحها الوطنية في الإقليم الجغرافي الذي تتواجد فيه. وإذ تتعامل المصالح الوطنية والتوازنات الإقليمية -باعتبارها منتجا ديناميكيا- مع أسباب القوة ووسائل إدارتها؛ وبما يحقق المصالح الوطنية بالتعاون مع بعض الأطراف الإقليمية وفي مواجهة أطراف إقليمية أخرى، فإن هذا المنتج الديناميكي لا ينطلق من فرضيات وأحكام مسبقة، على النحو الذي تقوم به الأيديولوجيا في المصادرة على الحقيقة والتعمية عليها.

ارتبط العرب منذ ألف سنة على الأقل مع بلاد الأناضول بوشائج التاريخ والثقافة، ولكن العلاقات العربية التركية ظلت دوماً مسكونة بهواجس نخبوية عربية استحالت بمرور الوقت عائقاً أمام رؤية تركيا بأبعادها الحضارية والاستراتيجية، ناهيك عن مكوناتها القومية والطائفية. والحال أن الدور المحوري للجغرافيا في صياغة الأهمية الفائقة لتركيا من حيث كونها دولة مركز بحكم محددات الجغرافيا يتضافر مع أحكام التاريخ والثقافة بحيث يجعل لها تأثيرا «جيوسياسي وجيواستراتيجي»، يستعصي على التصنيف أحادياً أو النظر إليه من زاوية واحدة فقط. وبالمقابل ارتكنت النخبة العربية طوال عقود على أحكام القيمة في تقييمها للأحداث والظواهر، فدمغت أغلبية هذه النخبة تركيا بالتبعية لطرف دولي بالقياس إلى تجربة الحرب الباردة. تركيا الآن ليست واجهة لدول عظمى في المنطقة، إنها في الأساس دولة إقليمية نافذة، لها مصالح وطنية تتوخى تحقيقها عبر تحالفات دولية وإقليمية، ويجب النظر إليها على هذا الأساس.

حالت «الأيديولوجيا» السائدة لدى شرائح واسعة من مثقفي المشرق دون مواكبة التطورات والتغيرات في هذا البلد المهم بالمنطقة والمؤثر فيها بشدة، بعد أن اختزلت سياسات تركيا الداخلية والإقليمية في إطار آني وضيق ومعلب سلفا، في ظل حالة «أيديولوجية» غير مبررة من العداء أناخت على العقول وأفقدتها الرؤية الصحيحة. ولذلك لم تلحظ النخبة العربية الحراك الجاري في تركيا منذ سنوات والخاص بإعادة توجيه السياسة الخارجية، وظهرت نتائج هذه العملية في سياستها الخارجية الساعية إلى ترسيخ نفوذ بلادها بالمنطقة ونقلها من عضو في محاور وأحلاف مع دول ضد أخرى، إلى مركز إقليمي يحتفظ لنفسه بمسافة من الجميع ويتواصل معهم في الوقت نفسه. ويمكن ملاحظة هذه النقلة الاستراتيجية من خلال التبدل الواضح في علاقات أنقره بدول جوارها الجغرافي مثل اليونان وروسيا وإيران والدول العربية خصوصا العراق وسورية. لم تستغن تركيا عن شبكة تحالفاتها الدولية والإقليمية قرباناً للسياسة الاستراتيجية الجديدة، بل أعادت ترتيب مفردات القوة الاستراتيجية لمصلحتها، فلم تعد أسيرة لتحالفات مع طرف دولي واحد، بل نسجت خيوط علاقات متوازنة مع دول كبرى بالعالم مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي. وفي غمار ذلك لم تغفل أنقره حقيقة حضورها في مراكز صنع القرار في واشنطن، إذ إن تركيا هي الدولة الوحيدة بالمنطقة بعد «إسرائيل» التي أفلحت في تكوين مجموعات ضغط في مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين إلى جوار مجموعات الضغط اليونانية والأرمينية واللاتينية والصهيونية طبعاً.

وبالرغم من إدراك السياسة الخارجية المصرية لضرورة التحرر من الأيديولوجيا؛ يمكن ملاحظة حقيقة فائقة الأهمية مفادها أن العلاقات المصرية-التركية لم تصعد أبداً، برغم كل عوامل التقارب بين البلدين، إلى مستوى الشراكة المميزة منذ قيام تركيا عام 1923 حتى الآن. حافظت العلاقات المصرية-التركية طوال النصف الثاني من القرن العشرين على مستوى معين من العلاقات المقبولة، فكلا البلدان انضوى -بشكل أو بآخر- في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن أن النخبة المصرية لم تعانِ تاريخياً من «عقدة تركيا» كما كان الحال في المشرق العربي حتى سنوات قليلة مضت وبما يعيق تطور العلاقات بين القاهرة وأنقره.

ويعود السبب في عدم تطور العلاقات بين البلدين إلى تنافر بوصلة السياسة الخارجية: التركية المتجهة نحو الغرب بشكل أساسي، والمصرية المتمركزة حول الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل شبه حصري. وهكذا تستقر العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا على حجم تجارة واستثمار مباشر لا يتجاوز مليار دولار، بالرغم من كل الترحيب الإعلامي الموسمي بهذا الخصوص. ولذلك يمكن اعتبار أن العامل الأساس في إجراء الحوار الاستراتيجي بين البلدين، وفي هذا التوقيت، هو التطورات والمستجدات الإقليمية وليس العوامل الاقتصادية، أو حتى القصور الذاتي الناجم عن علاقة استراتيجية قائمة بالفعل.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية  والاستراتيجية-القاهرة

back to top