عن الكتابة... وحولها

نشر في 30-11-2008
آخر تحديث 30-11-2008 | 00:00
 محمد سليمان لا أحد من الكتاب أو المبدعين يكتب لنفسه... فالكتابة قبل كل شيء انشغال بالآخر وسعى إلى التواصل معه والاندماج فيه وأحياناً تغييره وإعادة تشكيله. والكتابة بهذا المعنى وجود وممارسة للحياة، التوقف عنها يصبح هاجساً مرعباً يطارد الكتاب ويدفع ببعضهم الى حافة الجنون والانتحار، لذلك يقاوم الكُتّاب هذا الهاجس بكل الوسائل. فالروائي الفرنسي الشهير بلزاك كان يُرى أحياناً منشغل بالكتابة فيسأله أحدهم هل تكتب رواية جديدة؟ فيرد قائلاً: «لا إنني فقط أمرَّن ذراعي»... وهذا التمرين كان وسيلة بلزاك لاستعادة لياقته وقدرته على الكتابة وصد هاجس النضوب. ومن الطريف أن نجد روائياً كبيراً آخر هو جارثيا ماركيز يقاوم هاجس التوقف والنضوب بالوسيلة نفسها؛ فهو يقول في مقدمة مجموعته القصصية «12 حكاية عجيبة»، التي ترجمها محمد أبو العطا وأصدرتها دار سعاد الصباح عام 1992: «بين كتاب وآخر أفقد عادة الكتابة ويشُق علي البدء من جديد، لذا فبين شهر أكتوبر من عام 1980 وشهر مارس من عام 1984، ألزمت نفسي بكتابة خواطر أسبوعية في صحف عدة دول كنظام لأحتفظ بذراعي دافئة».

الذراع الباردة أو المتخشبة لا تكتب، بل تجسد فقط رعب النضوب والتوقف. لذلك تكثر الإشارة في أحاديث المبدعين الى التمارين الإبداعية أي الكتابة التي يدفئون بها أذرعتهم والتي تُمزَّق غالباً أو يُعاد كتابتها مرة بعد أخرى للارتقاء بمستواها الفني. ويشير ماركيز في مقدمة مجموعته المُشار اليها إلى هذه التمارين قائلاً: «كتبت قصص هذه المجموعة على مدى الثمانية عشر عاماً الأخيرة قبل أن تصل إلى شكلها الحالي، وقد اعتقدت على الدوام أن كل صياغة جديدة لأي قصة هي أفضل من سابقتها، ولكن كيف لي أن أعرف أياً منها ينبغي أن تكون الأخيرة؟» ثم يورد عبارة لكاتب لا يذكره، فيها كل العزاء: «يُقدَّر الكاتب الجيد بحجم ما يمزقه لا ما ينشره». القلق والخوف من تدني المستوى الفني كان- ومازال- هماً آخر يطارد الكُتّاب. فالآخر (القارئ) هناك ينتظر ويتربص ويشحذ قدراته ويستعد لمحاسبة المقصّر. وقد أعفي شعراؤنا القدماء أنفسهم من هذه الهموم عندما زعموا أن الشياطين تُملي عليهم القصائد وأرجعوا الندرة وتراجع المستوى الفني إلى كسل شيطان الشاعر وتخاذله. وفي المقابل فاخر البعض بفحولة شيطانه وقدراته!

وقد توارى هذا الزعم بعد انتشار التدوين وانشغال كبار الشعراء بقضايا التجديد والتجويد وانخراطهم في معارك نقدية وإبداعية للدفاع عن حقهم في الاختلاف والانحراف عن الأسلاف، خصوصا في العصر العباسي الذي شاعت فيه الكتابة النثرية والترجمة وتيارات التجديد وبروز الاهتمام بالقارئ المُحتَمل أو المُتخيل الذي يعيش هناك في البعيد بسبب اتساع الدولة والذي لا يعرف الكاتب عنه شيئاً. وهذا القارئ المجهول تحوّل بمرور الوقت إلى ناقد مرتاب ومراجع يفتش عن العيوب والنواقص ومواطن الضعف والهشاشة في كتابات المبدع لكي ينقض عليه وينال منه ويحط من قدره. في كتابه «الأدب والارتياب» يحدثنا الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو عن الجاحظ الذي يورد ملاحظة مفاجئة في كتابه «الحيوان» مفادها أن القارئ عدو للكاتب يبحث في الخفاء عن الثغرات وعن نقاط الضعف بهدف التهجم على الكاتب والنيل منه، ومن ثم فعلى الكاتب أن يتذكر دائماً أنه يخاطب متلقياً معارضاً ومعادياً «ينبغي لمن كتب كتاباً ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداءٌ»، لذلك كان الجاحظ في كتاباته يسعى إلى استمالة القارئ والتودد إليه وإشراكه فى مشاريعه والدعاء له أحياناً «إعلم حفظك الله ورعاك»، كما كان الجاحظ يفتتح كتبه بالتعوذ أحياناً من فتنة القول وشره. بالكتابة يسعى الكاتب إلى التأثير والتغيير وإعلان حرب على واقع يراه متردياً. ويسوق هذا السعي الكُتّاب أحياناً إلى المحاكم والسجون أو المنافي، وإلى اتلاف كتبهم أو مصادرتها. ويحاول الكُتّاب اتقاء هذا الخطر باستخدام الرموز أو الأقنعة، أو بإدعاء أن كتبهم قد أُمليت عليهم «محيي الدين بن عربي»، أو أنهم كتبوا تنفيذاً لأوامر صدرت إليهم من جهات عليا «أبو حيان التوحيدي»، لكن الكتابة تبقى رغم ذلك كله سعياً إلى التواصل والتأثير والتغيير وممارسة الوجود وإعادة اكتشاف الذات في مرايا الآخرين ومتعة لا مثيل لها في الوقت نفسه.

كي أتسلى

وكيلا أنام صباحاً وظهراً

وعصراً وليلاً

سأعلن حرباً هنا في الورق

وأقهر ذئباً وقرداً وفيلاً

وكيلا أظل وحيداً

وملتصقاً بالجدارِ

وكيلا يقول الكسولُ سُليمان شاخَ

وأدْمن مثل العجائز طحن الهواءِ

ومصّ الصدى

سأزحف خلف الحروف التي تتطاير

في الرأس مثل الفَراش

وأمنح نفسي عصاً وشباكا

ووجهاً جديدا

هل ترى ما أرى؟

* كاتب وشاعر مصري

back to top