عن المرح التاريخي

نشر في 15-05-2009
آخر تحديث 15-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان لمواجهة المحن والشدائد تسلح المواطن المصري منذ زمن بعيد بالصبر وحكاياته، وبالضحك وتأليف وإطلاق النكات التي ينتقم بها ويسخر من الكبار والصغار ومن نفسه أحيانا، وقد ظلت هذه الأسلحة فعالة وقادرة على إفراغ شحنات الغضب والأسى وإزاحة الأحزان والهموم وإشاعة الكثير من المرح في الشوارع والمقاهي.

وقد استوقف هذا المرح التاريخي ابن خلدون قبل أكثر من ستة قرون وأدهشه، فكتب في سيرته الذاتية متحدثا عن انتقاله من الأندلس والمغرب يقول: «ثم دخلت مصر فوجدت أهلها يلهون ويمرحون وكأنهم قد فرغوا من يوم الحساب». ودهشة ابن خلدون كان لها ما يبررها في ذلك الوقت، فالعصر كان مضطربا والواقع مترديا والصراع من أجل السلطة والثروة محتدما بين طوائف المماليك، وكانت جيوش التتار في الوقت نفسه تواصل زحفها المر في شمال الشام، ومن ثم كان ابن خلدون ينتظر من الناس سلوكا آخر جادا ومختلفا يواجهون به المحن والشدائد التي تعاصرهم.

هذا السلوك الذي أدهش ابن خلدون قبل قرون تبخر في العامين الماضيين فاختفى المرح من الشارع وسادت الكآبة واكتست وجوه الناس بالقلق والوجوم، وتراجعت الابتسامات وحكم الصبر ومواويله وأمثاله، ولم يعد للنكتة سحرها القديم، وأدمن الناس الاحتجاج والاعتصام والإضراب وإعلان الغضب والتمرد بعد أن اكتشفوا عجز أسلحتهم التقليدية عن مواجهة البطالة وموجات الغلاء وتوابع الأزمة الاقتصادية العالمية.

وقد أقلق هذا التحول كبار المسؤولين خصوصا في أجهزة الإعلام فبحثوا عن الأسباب واتهموا الثقافة الجادة وأفكار التنوير بالوقوف خلف هذا التحول الخطير بسبب كثرة الحديث عن الإنسان وحقوقه، والسعي إلى إيقاظ العقل وشحذ قدراته وتنشيطه، وحضه على مواجهة التخلف والفساد والجمود. وبسبب هذه الجرائم شن المسؤولون حربا على الثقافة الجادة فأطاحوا أولا بقناة التنوير التي توقفت عن البث في سبتمبر الماضي لإشاعة فوائد الظلام ومزاياه، وفي مقدمتها حض المواطن على النوم أو الانشغال ببرامج المسابقات أو استحلاب قصص العفاريت والغيلان والأشباح.

ثم انقضوا على بعض البرامج الثقافية التي شكلت وعي الناس على مدى عقود فاختفى برنامج «نادي السينما» الذي ظل منذ السبعينيات يروج للسينما العالمية الجادة ويقدم للمشاهدين أسبوعيا بعض أهم منجزاتها ويحرص على استضافة النقاد والمبدعين للحديث عن الأفلام قبل عرضها وتقديم رؤى نقدية تتناول الإخراج والتمثيل والتصوير والديكور والأعمال الأدبية التي أخذت الأفلام عنها... ثقافة سينمائية رفيعة ظل المشاهد يستمتع بها ويتابعها على مدى عقود ساهمت في الارتقاء بوعيه وذوقه وعلمته احترام الآخر وتقدير إبداعه.

ولم ينج برنامج «كنوز مسرحية» الذي كام يقدم أعمال توفيق الحكيم، ونعمان عاشور، وسعد وهبة، وألفريد فرج، ويوسف إدريس، وصلاح عبدالصبور وغيرهم، بالإضافة إلى بعض روائع المسرح العالمي.

فقد أصدر حكماء وزارة الإعلام قرارا عجيبا آخر بتأخير موعد بث البرنامج إلى ما بعد الثانية صباحا أي قرب الفجر كي لا يراه الناس، وعندما شكا البعض من اضطراره إلى السهر لمشاهدة البرنامج صدر قرار آخر بإنهاء صلاحية الكنوز المسرحية في الفترة الأخيرة واعتبارها غير جديرة بالعرض على الشاشة... كما تبخر في الفترة الأخيرة برنامج «أمسية ثقافية» الذي كان يقدمه أحد عشاق لغتنا وأدبنا الكبار وهو الشاعر فاروق شوشة، وباختفاء هذا البرنامج سدت النافذة التي كان المواطن يطل منها على الحركة الأدبية المعاصرة ويعرف شيئا عن إبداع وطنه ومبدعيه.

القضاء على هذه البرامج الثقافية الجادة لم يعد البشاشة إلى الوجوه، ولم يقض على العبوس والقلق الذي استبد بالمزاج العام، ولم تفلح البرامج الهزلية الساذجة ولا برامج المسابقات في إلهاء الناس عن المحن والشدائد، ولم تعد إلى الشارع ذلك المرح التاريخي المفقود الذي أشار إليه ابن خلدون، وقد نسي المسؤولون أن الإعلام الرسمي لم يعد كما كان في الماضي مهيمنا أو مؤثرا بعد انتشار الفضائيات ووسائل الاتصال والاطلاع على حقائق الواقع، كما نسوا معاناة رجل الشارع وتبخر قدرته على الصبر والتحمل وانتظار ما لا يجيء واضطراره من ثم إلى الإضراب عن العمل والاعتصام والتظاهر للحصول على بعض حقوقه.

ومن الطريف أن تتصاعد الشكوى في الفترة الأخيرة من تواصل الانحدار الثقافي وتراجع قيم الولاء والانتماء، وكأن هذه السياسات الإعلامية والثقافية لم تختر الانحدار ولم تروج له.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top