رامسفيلد في قلب عاصفة الفضائح

نشر في 24-12-2008
آخر تحديث 24-12-2008 | 00:00
 علـي بلوط لن يتمكن الرئيس الأميركي المنتخب أوباما، أو غيره في الإدارة الجديدة، مهما علا شأنه وكبر نفوذه، أن ينقذ بوش وأعوانه الكبار من محاكمة أو محاكمات رسمية وغير رسمية نتيجة الفضائح المالية والسياسية التي أفرزتها عملية غزو العراق في عام 2003. فالحبل يزداد اقتراباً والتصاقاً بالأعناق المسؤولة حتى بات من الصعب إجراء مساومات على حساب الحقائق المثبتة بالوثائق التي بدأت تغزو أروقة ومكاتب الجهات المسؤولة عن تطبيق القوانين، وملاحقة المخالفين وتقديمهم إلى العدالة. ومهما قيل عن الفساد المستشري في الولايات المتحدة، وعن «هروب» المخالفين من دفع الثمن، يبقى القانون الأميركي داخل أميركا هو السيد المطلق الصلاحية. بمعنى آخر، فإن العدالة داخل أميركا قد تغض الطرف عن أشياء كثيرة، لكن من المستحيل أن تدير وجهها وتتعامى عن مخالفات وارتكابات مدعومة بالوثائق خصوصاً في ما يتعلق بالتلاعب بالمال العام، ولعل هذا الأمر هو من الأشياء القليلة الباقية التي تدل على عظمة الامبراطورية التي بدأت تغيب شمس نفوذها عن مختلف مستعمراتها السابقة والحالية.

ويبدو أن أوباما الذي قيل إنه وعد قادة الحزب الجمهوري، وبالأخص بوش نفسه، بمحاولة السعي إلى إبعاده عن شرب كأس العدالة المرّ، سيجد نفسه في النتيجة عاجزاً عن تحقيق هذا الوعد نظراً لكثرة القضايا التي بدأت تفاصيلها تظهر إلى العلن حول مخالفات مالية ببلايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وعلى هذا الأساس، فإن أوباما سيترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي من دون النظر إلى من سيكون كبش الفداء.

لقد بات واضحاً أن وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد سيكون باكورة «خرفان الأضاحي»، وقد يتبعه نائب الرئيس ديك تشيني مع عدد من المساعدين الذين استفادوا مالياً من غزو العراق على حساب دافعي الضرائب، وكذلك بات معروفاً أن بوش صار على استعداد للتضحية بهؤلاء وغيرهم لإنقاذ نفسه من التجريم وما يتبعه من محاكمات وأحكام متوقعة بالسجن، وهناك أكثر من دليل على صحة هذا القول لعل آخر الأدلة تحريك الحملة ضد رامسفيلد المدعومة بالأدلة والوثائق والاعترافات عن اتخاذه قرارات تعذيب السجناء في «سجن أبو غريب» العراقي وسجن غوانتنامو الشهير.

فقد نشرت جريدة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر في 14 ديسمبر الحالي خلاصة دراسة تحقيقية مؤلفة من 523 صفحة تحتوي على ذوبان ما مقداره مئة بليون دولار كانت وزارة الدفاع قد خصصتها قبل الغزو لإعادة إعمار العراق، وتذكر هذه الدراسة أن رامسفيلد لم يكن راضياً منذ البداية على دفع دولار واحد لإعمار العراق، لكنه وافق على مشروع المئة بليون وكان في ذهنه أن يصرفه على أوجه عسكرية وغير عسكرية تحت ستار إعادة تعمير ما دمره الغزو، وعندما بدأت روائح هذه الصفقة تصل إلى واشنطن، أقدم رامسفيلد على تضخيم مشاريع إعمار صغيرة قام بها الجيش الأميركي خصوصاً بناء ثكنات للجيش العراقي وللشرطة.

وتذكر هذه الدراسة التحقيقية التي أشرف على القيام بها جهاز الـ«FBI» أن كولين باول، وزير الخارجية السابق، قال بعد عدة أشهر من الغزو إن «وزارة الدفاع استمرت في اختراع أعداد غير حقيقية لعدد القوات الأمنية العراقية المسجلة على موازنة البنتاغون بشكل كان يقفز فيه عدد هذه القوات بنسبة 20 ألف عنصر في الأسبوع الواحد: عندنا اليوم 80 ألف عنصر... عندنا اليوم 100 ألف عنصر... عندنا اليوم 120 ألف عنصر».

وفي الدراسة التحقيقية أثبت باول أقواله هذه مع توقيعه عليها. أيضاً ذكر باول أن هذه الأعداد الخيالية لأفراد قوى الأمن العراقية والمتعاقدين التابعين لشركات أجنبية كان يؤيد صحتها بالوثائق الموقعة منه الجنرال سانشيز القائد السابق للقوات الأميركية في العراق وبول بريمر الثالث الذي عينه بوش حاكماً مدنياً للعراق إلى حين تشكيل أول حكومة عراقية في يونيو 2004، وتقول الدراسة التحقيقية إن مشروع المئة بليون دولار لإعادة تعمير العراق، هو الأكبر منذ مشروع مارشال لتعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بقي حبراً على ورق، ومجرد دراسة تنقصها الإجراءات التنفيذية مما يدل على النوايا السابقة للبنتاغون بعدم صرف دولار واحد من جيب دافعي الضرائب الأميركيين على العراق، لكن النتيجة التي مازالت مجهولة إلى الآن والتي لم تتمكن الدراسة التحقيقية من العثور عليها، أو ربما عثرت عليها ولأسباب غير معروفة أبقتها طي الكتمان: ماذا جرى للمئة بليون دولار، هل صرفت كلها أم بعضها؟ وأين؟ وكيف؟

تشير الدراسة التحقيقية أيضاً: حتى منتصف العام 2008 صرف مبلغ 117 بليون دولار على إعادة الإعمار بما فيها 50 بليوناً من أموال دافعي الضرائب الأميركيين. كيفية صرف هذا المبلغ- حسب الدراسة- يحيط بها الغموض والفوضى وتنقصها فواتير الدفع والقبض القانونية، والتحقيق في هذه القضية مازال جارياً بإشراف الـFBI.

وتذكر الدراسة أن أحد كبار المقربين من الحزب الجمهوري الذي اتخذ من فندق الرشيد في بغداد مركزاً لإقامته وإدارة أعماله كان يستدعي المقاولين الأميركيين وغير الأميركيين ويقول لهم: عليكم أن تتفقوا مع المقاول الذي أحدده وإلا فإن العمل لن يجري إتمامه.

هذه القصص الحقيقية وغيرها منشورة على مدى أكثر من 500 صفحة، وهي عدد أوراق الدراسة التحقيقية، التي وزعت بشكل محدود جداً على عدد من المسؤولين الأميركيين... وقد حصلت على نسخة كاملة لهذه الدراسة التي تنتظر خروج بوش من البيت الأبيض لتأخذ طريقها إلى الكونغرس، وربما إلى لجان التحقيق، وبعدها إلى المحكمة، أما «الشبح» الحقيقي الذي يقف وراءها فلم تسلط عليه الأضواء بعد، لكنه لن يستطيع أن يبقى مختفياً طويلاً عن أضواء مسرح الفضائح المالية. أعني به نائب الرئيس ديك تشيني الذي- كما يبدو- أن بوش على استعداد لتقديمه كضحية ثانية بعد رامسفيلد، وهو في الحقيقة ليس بضحية، وذلك أن ما يقض مضجع بوش هذه الأيام أن ينقذ نفسه، ولن يكون أمامه سوى طريق وحيدة: أن يظهر بمظهر المغفل الذي سمح للذين أحاطوا به أن يستغلوه إلى آخر قطرة من الكرامة الإنسانية، وهو الرصيد الوحيد الذي يتباهى به رؤساء الولايات المتحدة. غير أن شكوكاً تتعاظم حول نجاح بوش في أن يغسل يديه بدماء «الصدّيقين» الذين رافقوه في الدرب المليئة بالأشواك وبالدموع- طبعاً دموع العراقيين- وبأموال دافعي الضرائب الأميركيين.

* كاتب لبناني

back to top