ديوان الشعر الأميركي الجديد

نشر في 10-10-2008 | 00:00
آخر تحديث 10-10-2008 | 00:00
No Image Caption
ترجمة عابد اسماعيل

الناشر: دار المدى

إنها أميركا أخرى مجهولة ومجبولة بالقصص الخفيّة والغامضة للسكان الأصليين، تلك التي تحضر بقوة في هذه القصائد التي ترجمها عابد اسماعيل إلى العربية وضمّها في «ديوان الشعر الأميركي الحديث - عالم مملوء بالعظام والريح» الصادر عن «دار المدى».

لماذا العظام والريح؟ ما هي العلاقة التي تجمع بينهما وبين كلمة حديث التي توصف بها تلك القصائد والتي تحمل إيحاء بأنها بنت لحظة لا مجال فيها للغابر والماضي، الذي تفلشه بقوة العظام والريح كمادة دلالية تحفر طريق القراءة بالأساطير والحكايات والتذكّر العنيف والقاسي؟ إنها أميركا المجزرة التي أنشأت من الدم عالمها المعاصر وزيّنته بالاعتذارات القاسية التي لا تكون ممكنة إلا حين تصبح الضحية عاجزة عن الانتقام، لكننا في هذا الديوان المنوّع نعثر على ضحايا تنتقم بأكثر الطرق امتداداً وتراكماً وأصالة. ترسم الجلاد طفلاً يسرح في البراري القديمة والأصلية التي كانتها تلك البلاد قبل أن ينشئ على أنقاضها البلاد التي يستحق أن تكون بلاده. تدعه يشتهي تلك الصورة الدفينة ثم تنقله إلى صورة المجزرة وتسأله ببراءة: أي الأشخاص أنت؟ الأميركي المنتصر أم الطفل الحر؟

دائرة الانتقام تلك يرسمها هؤلاء الشعراء الذين تعود أصول معظمهم إلى الهنود الحمر. لا تملك أميركا الحديثة إذاً شعراءها، وترجع أصول الخطاب الشعري الأكثر بروزاً وسطوًعا فيها إلى مرحلة سابقة على ولادتها.

الشعر الحديث في أميركا هو شعر يمكن أن نطلق عليه وصف الإحيائي، إذ أنه يحيي أميركا القديمة التي أرسلت إلى المتاحف والمحميات ويفلش صورها النافذة وقصصها الباهرة وأساطيرها وأخلاقها وعاداتها وقيمها على مساحة الحاضر، فيغطيه شعرياً بكثافة متوهّجة دفّاقة تلمع فيها الخريطة المحروقة والممزّقة بالنار والبارود بقوة الكنايات، وتنشد أواصرها بالاستعارات وتصير كل فاصلة سيرة كاملة، وكل استعارة قطيع غزلان شارداً يجد مأواه، تعود الجواميس لترعى في الأماكن التي صارت ناطحات سحاب وتعود الأحراز والأعشاب وقوة الشفاء الإيمانية لتضرب الشفاء بالطب العقاقيري، ففي البلاد القديمة لا موت ممكناً. ليس الموت إلا تلك النقطة الصغيرة التي لا تكاد ترى في آخر المقاطع التي تختم فصلاً وتعلن عن بداية فصل جديد. ليس الموت إلا خاتمة موصولة ببداية. إنه رحلة متّصلة في حالة دوران دائمة تتبادل فيها النهايات والبدايات أمكنتهما بشكل مستمر فيصعب العثور على لحظات انطلاق أو لحظات توقّف.

نقل المترجم هذا الدفق كله بعبارة واضحة شفافة. خرجت القصائد من بين يديه حية محافظة على وهجها الذي تقضي عليه الترجمة في كثير من الحالات. عالم العظام والريح هو عالم الذاكرة، فليس هذا الديوان سوى أصداء عظام تصلصل في الريح، فتأتي الكلمات وتكسوها لحماً وتهبها هيئة، فتصير أشخاصاً وكائنات وحيوانات وأشجاراً وتحيي هذا العالم المسحور بالسير الفالتة من أسر محميات الثقافة الأميركية.

ناسخو الرياح

لا يمكن الإحاطة بالتقنيات الكتابية والعناصر الثقافية التي شكلت الآفاق التي استند إليها الشعراء الذين تحضر قصائدهم في هذا الديوان، لكن ما يضم كل تلك الكتلة الضخمة من الأساليب والنزوعات هو الشفافية المصبوبة في قالب من غنائية متفكرة وحزينة مشدودة دوماً إلى الرياح، بوصفها حاملة الكلام الذي عبر والذي لا يمكن التقاطه إلا بواسطة امتلاك مهارات خاصة، تسمح لمن يجيدها بنسخ ما تكنزه الرياح من صور وحكايات وكلام.

لا يدّعي أي من الشعراء امتلاك الكلام ولا حتى تأليف القصائد. هناك حالة تشبه ألماً قاسياً يصيب من دون أن يكون له سبب واضح، على الرغم من أنه موجود ولا يمكن تجاهله أبداً. يتيح هذا الألم الخفي للذات أن تتكوّن وتعقد الصلة مع مادة كتابتها ومع صوتها الأمين الذي هو الرياح، فهو يتيح اكتشاف الذات ويدل عليها في أطواره وتقلّباته كلها.

إنه الألم الأصلي الذي يكوِّن الذاكرة ويصون أسبابها ويحرس مسراها. إنه السر والعالم الذي يجب حمايته دوماً وردّه إلى أصوله ومنعه من أن يصبح مجرد تاريخ شخصي لعابرين وغرباء. تقول القصائد إن الألم هو تاريخ المكان وعلامته ودليله، وهو ليس ألماً عابراً وسريعاً بل ثابتاً ومقيماً وضارباً في الاتجاهات كلها. لا تريد القصائد الكشف عنه لتحويله إلى مادة للحقد، بل إلى تاريخ قابل للقراءة محفور في ذات المكان وفي قلوب ناسه بقوة الحياة اليومية البسيطة والعادية. تريد مشاطرته ومقاسمته مع صانعيه لكي يتوزع ولا يعود خاصاً ومرتبطا بجماعة معينة أو ثقافة معينة. تريده أن يكون الألم الذي خلق أميركا. يريد من أميركا الحديثة الاعتراف بأنها البنت الشرعية له وبأنه كان كريماً معها ولم يبخل عليها يوماً بكل ذاته، لتولد كما هي الآن هائلة وطائشة وناجية من أسر الحنين أو الشعور بالذنب.

يسرق ويليس بارنستون سرداً من مدينة أوديسا عبر قصة إسحق بابل، أحد أشهر كتابها الذي سجن وأعدم في سجنه رمياً بالرصاص، بعدما اتُّهم بالخيانة. يقول: «كينونتي مصبوبة من فولاذ /لكنني أنهار/ أمام اسحق بابل في الرابعة بعد الظهر».تتهاوى كينونة الشاعر الفولاذية أمام مشهد يتجاوزها ويفكّك تماسكها. لا تستطيع مجاراته ولا أن تستل من مخزونها الذاتي ما يوازي شحنته الانفعالية وما يحمله من رسوخ وجمال.

تصب لويز إردريتش نهر الحكايات في بنية كنائية محكمة، تروي قصة الجنّي وينديغو آكل اللحوم الذي يعيش في جوفه إنسان مطمور وتنتصر عليه فتاة وتهزمه بأن تخرج الشحم المغلي من حنجرته فتنقذه من الوحش وتحرّر الكائن المشتاق إلى الدفء. تصنع نهاية تشتهيها لأميركا، فيصبح الجّني الكاسر «نهراً يرتجف نحو الشمس».

السؤال الخفي هو: من ينقذ أميركا ويخرج الشحم المغلي من حنجرتها. من يهزمها ويحررها من نزعاتها اللاحمة ويطلق سراح الطفل من قلب الوحش؟ تحاول ليزلي مارمون سيلكو البحث عن أسباب ضياع ذلك العالم الجميل والقديم والكامل، فتعلن في قصيدة بعنوان قبل زمن طويل: «في البدء /وقبل زمن طويل/ لم يكن من أناس بيض في هذا العالم/ ولم يكن ثمة من شيء أوروبي/ وكان يمكن لذلك العالم أن يستمر / لولا شيء واحد: السحر./ ذلك العالم كان كاملاً للتو حتى دون الناس البيض./ كان يوجد كل شيء / بما في ذلك السحر».

تصقل ريتا دوف الوجود بحجارة رغبة لينة قابلة للتشكّل في مناخات من السحر الغامض والمحسوس. تبدأ اللحظة عندها من اختلاجات الأعصاب التي تدل على أن هناك حافزاً كتابياً يحتاج إلى الغوص فيه واستجلاء مكوّناته. بعد ذلك يأتي الدفق عارماً بهياً عميقاً وشفافاً. تقول: «كنت مريضة، أشعر بالغثيان من رائحة أكياس الشاي/ حين أتيت ومعك الطماطم، ذاك الشِِِعر البهي/وشعرت كمن يهدهدها نداء/ يحتلني جرف من حجرٍ كلسي/ مبقِّعاً نهديَّ بالطباشير».

تصنع كارولين فورشي صمتاً خاصاً. تطلب من الأجراس ذات الرنين العمومي تبنّيه، فالمجزرة حلت واكتملت وهي بحاجة إلى نوع جديد من الأجراس لتنحت لنفسها محلاً في الحميم والداخلي وكي لا تعبر من دون أثر. ترسم المشهد بطيئاً وحاراً حزيناً من دون أن يكون جنائزياً: «تحضر الوجبة، صحن كبير من الأرز/ أسماك بحرية، أظافر وأصداف/ شفاه أولئك الذين أزيلت شفاههم/ بلح البحر، والأزرق الناعم لبقايا ساق/ هذه ليست وجبة طعام/ هذا ما تبقى من أولئك الذين بقوا/ في بوينس آيرس.هذه دمغة/ بندقيةٍ تركت أثراً على الصخر/ يدها على فمها /وزوجها يسقط ، متهاوياً قربها/ هذه هي الزهور التي اشتريناها/ هذا الصباح، زهور الأضاليا/ مضمومة على قبره/ والأجراس، بألسنتها المقطوعة، تنتظر/ هذا الصمت الخصوصي».

هذا الديوان هو خطاب صمت عارم ينسج أجراسه برقة من لحم الذاكرة. يعلّقها في الرياح الكبرى، رياح المفاجآت. ينتظر بصبر ذلك الرنين الآخر الذي وحده يجيد تلاوة الحكاية.

back to top