القدس التي تتآكل

نشر في 07-11-2008
آخر تحديث 07-11-2008 | 00:00
 محمد سليمان ما الذي يريده الإسرائيليون من التطبيع؟

لم نطرح على أنفسنا هذا السؤال بشكل جاد رغم مرور ثلاثة عقود على ظهور مصطلح التطبيع، والإجابة أو الإجابات كانت ستختصر جهداً ووقتاً وخطباً تجاوزتها الأحداث، وكانت أيضاً ستساعدنا على تحديد معنى أدق وأوضح للتطبيع، يخرجنا من دوائر التخبط والدوران حول أنفسنا، بسبب المفهوم الغامض والضبابي للتطبيع. قبل أعوام كان القاص والمترجم الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين دائم الشكوى من دور النشر القومية المصرية التي رفضت نشر الروايات التي ترجمها لبعض الكُتاب الإسرائيلين بزعم أن هذا النشر يدخل في إطار التطبيع، وخوفاً من شُبهة التطبيع وصيحات التنديد والتخوين يعتذر أو يقاطع بعض المبدعين والمُفكرين العرب العديد من اللقاءات والمؤتمرات الدولية بسبب مشاركة الإسرائيليين في نشاطاتها، وقد ساهم هذا السلوك في تغييب حقوقنا وتهميش قضايانا وإشاعة صورة العربي العنصري والمتشدد وعدو الحوار والحضارة.

تدافعت هذه الخواطر من الذاكرة بعد اختيار مدينة القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009 وتذكرت القاص الفلسطيني جمال القواسمي الذي يعيش ويُبدع في مدينة القدس المُحتلة، ويكتب قصصاً مسكونة بخيال جامح، وبحلم الانفلات من الأسر، ومُثقلة في الوقت نفسه بكوابيس الاحتلال والقهر والمعاناة.

كان القواسمي عندما التقينا في مدينة أيوا الأميركية عام 1995 شاباً في الثلاثين مُتوهجاً ومُعبأ بالحيوية رغم إعاقته وظروفه الصحية التي أجبرته على استخدام الكرسي المتحرك بشكل دائم، على مدار ثلاثة شهور كان القواسمي يردد عبارة لا حد لمرارتها «الفلسطينيون يعيشون تحت حصارين: أحدهما إسرائيلي والآخر عربي»، عندما أحدّثه عن الشعراء والكُتاب المصريين والعرب الذين ظهروا في الستينيات والسبعينيات، والذين لم تصل كُتبهم أو قصائدهم إليه وإلى زملائه، وعندما يحدثني عن مدينة القدس العربية وسكانها الذين لا يعرف العرب عن معاناتهم شيئاً، ولا يدركون أن المدينة تتآكل يوماً بعد آخر، وأن إسرائيل تضيق على سكانها ولا تسمح لهم أحياناً بترميم أو تجديد منازلهم القديمة لإجبارهم على الفرار منها أو بيعها للإسرائيليين، بينما يكتفي العرب بالشجب وكتابة القصائد عن القدس أو ترديد أغنية فيروز الشهيرة.

في الفترة الأخيرة دعت وزارة الثقافة الفلسطينية المبدعين والمثقفين العرب للمشاركة في إحياء احتفاليات القدس عاصمة للثقافة العربية معلنة «أن مشاركتهم لا تدخل في إطار محاولات التطبيع مع المحتل الإسرائيلي إنما تُعزز صمود الفلسطينيين في مواجهة هذا الاحتلال، وهو تحد كبير يتطلب من المثقفين الحضور إلى القدس وتغيير المفهوم الخاطئ للتطبيع، فزيارة القدس ليست تطبيعاً لأن من ينصر السجين لا يُطبع بالضرورة مع سجانه».

وقد أربكت هذه الدعوة جموع المُثقفين فيما رفضها البعض، وتعاطف معها البعض الآخر خاصة من شباب المبدعين، ورأى البعض أن الاحتفاء لا يعني الذهاب إلى القدس إنما يعني الاحتفاء بها في كل العواصم العربية، بينما فضّل معظم الكُتاب إحالة الأمر كله إلى اتحاد الكُتاب العرب الذي قرر أخيراً أن احتفالية القدس يجب أن تتم في كل العواصم العربية، وهو قرار يساير المناخ العام، ويتحاشى صيحات التنديد أولاً وأخيراً، ويخذل الفلسطينيين ويساهم بشكل ما في زعزعة صمودهم وانتمائهم العربي، خصوصا سكان مدينة القدس حراس المسجد الأقصى.

قبل عامين صفقنا للكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماجو عندما ذهب إلى الأرض المحتلة وهو في الثمانين من عمره مع بعض زملائه الكتاب لكي يتظاهر ويحتج، ويندد بإسرائيل وبجدارها العازل، وقبل شهور صفقنا للنشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان عندما استطاعوا الوصول إلى غزة لمساندة شعبها المُحاصر مخترقين بسفينة صغيرة الحصار البحري الإسرائيلي، وأظننا قد أدمنا التصفيق للغرباء الشجعان الذين يدافعون عن الحق والواجب لأننا لسنا مثلهم ولا نملك بعض شجاعتهم.

كان على اتحاد الكتاب العرب أن يُشكل وفداً رمزياً يضم بعض المبدعين والمثقفين العرب يسافر إلى القدس للمشاركة في إحياء الاحتفالية ولمساندة الفلسطينيين، وليؤكد تمسك العرب بمدينة القدس التي يحاول الإسرائيليون ابتلاعها، فالاحتجاج ليس تطبيعاً والمطالبة بالحق كذلك، والإسرائيليون يبحثون كالأوروبيين والأميركيين عن الطاقة والأسواق أي الرخاء الاقتصادي، وقد نجحوا إلى حد ما رغم خُطبنا وقصائدنا في تحقيق بعض أهدافهم من التطبيع، فبضائعم في أسواقنا وبترولنا وغازنا يصلان إلى مصانعهم ومنازلهم وسياراتهم بأسعار رمزية، وهناك آلاف المصريين يعيشون ويعملون في إسرائيل بسبب أزمة البطالة وكره بلادهم لهم.

هذا هو التطبيع الحقيقي لكننا بسبب العجز وقلة الحيلة نستسهل لوم الضحايا والتخلي عنهم أو معاقبتهم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top