القمر الهندي

نشر في 29-10-2008
آخر تحديث 29-10-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي «هو أنا هندي» تعبير أطلقه المصريون للتعبير عن السذاجة والاستخفاف، وبينما المصريون غارقون في التندر على الهنود، انتقلت الهند من دولة تقليدية التسلح إلى دولة نووية، ثم ما هي إلا سنوات حتى أذهلتنا هذه الدولة بدخول نادي الفضاء، عندما أطلقت أول مركبة فضائية غير مأهولة بهدف وضع خريطة جغرافية ثلاثية الأبعاد للقمر. مركبة الفضاء الهندية «تشاندرايان -1»، التي يشار إليها مجازا بالقمر الهندي، صنعتها وكالة أبحاث الفضاء الهندية بأياد وعقول وخبرات هندية، وأطلقتها من مركز فضائي في جنوب البلاد، وتتأهب الهند لإرسال رواد فضاء إلى القمر في العام 2014، أما نحن فكل ما نعرفه عن ريادة الفضاء، فهو أننا نرتاد الفضائيات، ويا ليته ارتياد ممتع أو مفيد أو مريح للأعصاب، تستهلكنا هذه الفضائيات بتكرار ممل، ونغرق في معارك كثيرة وبطولات وهمية لا أكثر، تعلو الأصوات وتبح الحناجر، وكلما علا صوت المعركة وحمي وطيسها، تأكد وقتئذ أن الجائزة المتناطح عليها هي جائزة سخيفة أو تافهة.

تملك الهند اليوم أكبر مجموعة من أقمار المراقبة الصناعية للأرض متعددة الأغراض، وبدأت تحقق أرباحا مالية على المستوى التجاري، وليست لدى الهند مشكلة في التعاون مع الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة أو بعض الدول الأوروبية من منطلق مقاومة الاستعمار ومقاطعته ثأرا مما فعل في الماضي. على الرغم من أن الهنود قد عانوا الاستعمار البريطاني ليس بأقل، إن لم أقل أكثر، مما عانته مصر أو بقية الدول العربية من استعماراتها. الهند تركت المعارك الكلامية واللطم خلفها وتحركت قدما إلى عالم القنبلة النووية وعالم الفضاء، لم تتوقف عند التفاهات مثلما توقفنا نحن، ومع ذلك مازال البعض منا يهزأ من غباء يتخيله قائلا «هو أنا هندي».

أليس من أولويات المنطق البسيط، أن نتساءل كيف أصبحت هذه الدولة المثقلة بمشاكلها الداخلية ونزاعاتها الحدودية وماضيها كأرض استعمرت ونهبت، كيف استطاعت أن تقفز فوق كل هذه العوائق إلى القمر؟ الهند لا تتذرع بالحجج التي قد تعوق عملية التقدم والتنمية. فالهند تعاني مشكلة التضخم السكاني والفقر لكنها لم تتوقف عن البحث العلمي والتطور، ولا تعلق تخلفها على شماعة أنها مستهدفة بمؤامرة كبرى، ولم توقف نزاعاتها مع الجوار عجلة التنمية والديمقراطية أو نظام الحكم الرشيد. فالهند من حيث السكان تعد ثاني أكبر البلدان في العالم، حيث يزيد عدد سكانها اليوم عن المليار ومئة مليون نسمة، ولديها مشاكل داخلية أكثر منا يكثير، فهي موبوءة بالنزاعات الطائفية والدينية، وكذلك لديها ما يكفيها من النزاعات الحدودية مع جيرانها في الصين والباكستان، ومشكلة كشمير بالنسبة للهند تساوي أزمة الصراع العربي الإسرائيلي عندنا، ومع ذلك لم يتحجج الهنود بها.

كل ما نعرفه عن الهنود هو تلك العمالة التي نراها في دول الخليج، لا نعرف هند التقدم، وهند الديمقراطية، وهند التعددية الثقافية، فقط نراهم كقوم سذج. نحن فقط الأذكياء في هذا العالم، والباقي هنود.

تجربة الهند ثمثل نموذجا يُقتدى به بالنسبة للبلدان النامية، وبالأخص بالنسبة لمصر. كنت أتمنى لو أن الحزب الوطني الحاكم وهو يعقد مؤتمره السنوي أن يناقش تجربة الهند، ولن أقول كوريا أو اليابان وهما المثالان اللذان صدعنا أنفسنا بالمقارنة بهما في كل حلقة نقاش عن التنمية والتحديث، نقاشات لم تفض إلى شيء. الهند كانت شريكة لنا في الفترة الناصرية، وكانت يوغسلاقيا «تيتو» شريكة لنا أيضا في تلك الفترة، الهند تطورت لتصبح دولة حية فاعلة ومتوقدة، بينما يوغسلافيا دولة اختفت وماتت. ونحن ما بين بين، لا نتمنى حتما قدر يوغسلافيا ولكننا لم نحصل حتى على تقدم الهند، وهو طموح محدود في النهاية مقارنة بالدول الكبرى المتقدمة. على الحزب الحاكم أن يضطلع بمسؤولياته في نقل مصر من حالتها الحالية إلى دولة تستحق الاحترام، وأنا لا أحمل الحزب الحاكم كل أسباب تخلفنا لأنني لست من هواة بريق المعارضة من أجل الشياكة الاجتماعية، فالمجتمع برمته، بمنظومتة الثقافية والقيمية شريك للحزب في تكريس ثقافة الاستهتار، ثقافة «هو أنا هندي»، لذا يجب علينا أن نرفع أعيننا إلى السماء لنرى القمر الهندي، ربما يلهمنا، ليس إلهام الشعراء إنما إلهام العلماء... لعلنا ننتقل من عالم الفضائيات إلى عالم الفضاء.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top