النخبة غير المُنتَخبة أمام الحاجز
تبدو نخبوية المعارضة الديمقراطية تفسيراً معقولاً لعجزها عن الفعل والتأثير والدفع نحو التغيير، وتبدو «لا ديمقراطيتها» عائقاً أوليّاً أمام تجاوز هذا الواقع.ولا تتعثّر هنا أقدام اليساريين أو القوميين أو الإسلاميين وحدهم، بل أقدام الليبراليين المزعومين أيضاً. هم جميعاً يحسبون «ديمقراطيتهم» هي الأصحّ والأصفى... يتخوّفون أيضاً من اتّهامات من يشاركهم قيمهم القديمة ولا علاقة له بالديمقراطية، ويحسبون أنهم بذلك يبقون على علاقة أفضل بجمهورهم الثابت المفترض، خوفاً منه ومن تأثير تشهيره الفعّال على هشاشتهم و«انكشافهم» في لحظة التحوّل الديمقراطيّ الحقيقية. بذلك يدعّمون الحاجز بينهم وبين الناس، تحت شعار تجاوزه، وهذه معضلة لم نستطع حلّها بعد كما يبدو في داخلنا، فكيف نستطيع حلّ موضوع الحاجز المذكور؟! ليس أساس هذا الحاجز من صنعهم، بل هو الخوف وعنف السلطة والتدجين الشمولي قبل أيّ شيء آخر، إضافة إلى عوامل بنيوية لم يعمل عليها المجتهدون بعمق، منها حداثة تكوين الجماعة المدنية والدولة، مع تأثيرات التاريخ الاجتماعي العثماني أو ما يماثله، وطبيعة الحياة الاقتصادية الاجتماعية الانتقالية أو الوسيطة، وعمق البنية المتواكلة، وتشوّه العلاقة مع الغرب على أيديه وأيدي عملائه.. وأعدائه. لكن للحاجز ملاطاً يسارياً وقومياً وإسلامياً وليبرالياً أيضاً، وهذا من ندوب المشاريع «النهضوية» السابقة في المكان المعني أو حوله، وهذا ليس وحده ما تبقى من التجارب، بل معه ما أفرزته من عصاراتها، التي مازالت لزجة ودبقة تعوق المراجعة الطبيعية والمطلوبة.فاليساري مسكون بالقلق على أوضاع الفئات التي يريد أن يحافظ على إخلاصه لها، ويخشى على نفسه من خيانتها؛ بعد أن رآها تكاد تصبح يتيمة؛ فيُسقط هاجسه على ممارسته، ويلجم الميل نحو التحول الديمقراطي، ويفعل القومي مثل ذلك حين تأخذ الديمقراطية مساحة يراها على حساب حقله الأصلي، كما الإسلامي تماماً. في حين تأخذ بالليبرالي ذكريات الحريات السليبة السابقة، وتأسره تفاصيلها التي قد يكون بعضها متخلّفاً. كما تأخذه الصور التي رآها في الغرب ولا تكون عميقة كما ينبغي، فيحارب الآخرين وينفر من أمزجتهم وتبتعد به العزة وينعزل عن حلفائه، ويتهمهم بالتخلّف أو الانتهازية أو بزيف التزامهم بالتغيير الديمقراطي. رغم ذلك، تتجلى الصعوبة الأساسية في ضعف الاندماج الاجتماعي أو العجز عنه، فالنخبة الملتزمة مجموعة محترفة أنهكتها الجروح والزمن معاً، وتحول بعضهاً ندوباً و«التصاقات» مزعجة، أو تقيّحت وفاض صديدها في الفكر والحركة؛ مع نخبة ثقافية خرجت من إسار النظام الشمولي ولم يخرج بعضها من اعتياده عليه أو حاجته إليه.وهي بحالتها هذه تعاني ضعف الاتصال والتواصل مع جريان الحياة في المجتمع، وتشكو وتعترف بهذا الضعف ولا تدرك سببه فتعيده إلى حالة الاستبداد وحدها، أو إلى «هذا الشعب» المستكين العاجز الذي لا يثور ولا ينضم إلى القاطرة المعروضة أمامه. لا تبادر هذه النخبة المعارَضة بجدية كافية للاتصال بنخب أخرى في الميادين النقابية العمالية أو المهنية، ولا بالنخبة الريفية (نعم) ولا الطلابية وغيرها، وتشكو العزلة والركود. فرغم أن الأمر موضوعي وخارج عن الرغبات، لا يمكن حساب الشرط المطلوب للتحرك الشعبي ولا توقعه. الممكن هو الاستعداد له، وهذا غير متوافر. المطالب الشعبية مروحة عريضة تفاجئ باتّجاهاتها أحياناً، ما هو ثابت منها يمكن متابعته في مزاج المواطنين واهتماماتهم، ويتراوح بين مسائل الوطن والحريات والاقتصاد، لكن أكثرها حساسية هو الجانب المعيشي والحياتي منها.وطبيعة العالم الثالث عموماً؛ مع التسليم بأن اهتمام الإنسان هو بما يمسّ مستلزمات حياته وحياة عائلته أولاً؛ تجعل من التفات المعارضة الديمقراطية للموضوع شيئاً ضرورياً. إن الاستغراق في مسألة الحرية وحقوق الإنسان يعادل تحوّلها إلى إيديولوجيا، بالمعنى السلبي للموضوع، وهو ليس مكافئاً لاعتبارها الهدف السياسي الجامع.ليس صحّياً في هذا المجال أن تترهّل الاستنتاجات من ارتباط التحول الديمقراطي بالرأسمالية، أو مراحل الاستبداد بالشعبوية، بل يفاجئ البعض أن هنالك رأسماليين متنورين أكثر «يسارية» منهم، باهتمامهم بمستوى دخل وحياة الناس وضرورة ذلك لتقدم الاقتصاد الوطني عموماً.وهنالك في هذا الباب رأسماليون يحملون حيوية تكفيهم ليصرّوا على أنهم «اشتراكيون» بهذا المعنى المعيشي والأخلاقي، في حين يستريح مثقفون وسياسيون ليبراليون ويستسلمون لعزلتهم عن الشرائح الاجتماعية التي تعيش من عرقها. لا يمكن أن يستقلّ العمل من أجل الديمقراطية عن القضايا المعيشية والحياتية في بلادنا، ومن دون ذلك لا يمكن للنخبة غير المُنتَخبة أن تُمثّل أحداً. تاريخ الثورة الفرنسية نفسه؛ حين كانت فرنسا أقرب إلى أن تكون «عالماً ثالثاً»؛ يؤكّد هذه المقولة، وإلاّ فلماذا هاجمت الباستيل جموعاً تريد الخبز؟!* كاتب سوري