أمراء الحرب يتحولون إلى القرصنة

نشر في 12-10-2008 | 00:00
آخر تحديث 12-10-2008 | 00:00
 بدر عبدالملك ربما يجهل الجيل الجديد مفردة القرصنة والقراصنة خارج نطاق أفلام السينما والشكل النموذجي التاريخي، الذي قدمت به شخصية القرصان وسفينته وملامحه وملامح رفاقه فوق تلك السفن المختفية في الجزر النائية والخلجان الوعرة، غير أن الجيل الأحدث للألفية الثالثة تعرف على المفردة في التقنية الحديثة لعالم الكمبيوتر وسرقة البرامج ونشر الفيروسات وطبع الأقراص المدمجة وتهريبها وبيعها في الأسواق خارج نطاق القانون في أسواق سوداء، تفننت في سرقة الملكيات الفكرية، مما استدعى المؤسسات التجارية والدول إلى الإسراع بعقد مؤتمرات لوضع الأسس القانونية لمساءلة ومحاكمة الخارجين على القانون، وقد تم تصنيفهم على أن هذه القرصنة نوع من الجرائم الجديدة والحديثة، التي بدأت تتقاطع مع أنماط الإرهاب الفكري السائدة والجرائم المتنوعة المعقدة في عالم التهريب، وغسل الأموال والاتجار بالبشر وتهريب العمالة غير الشرعية.

غير أن القرصنة في واقع الأمر مفردة أبعد من ذلك، وحقيقة أقدم بكثير من رومانتيكيات الأدب وعالم السينما، فهي ظاهرة تكررت في الكثير من البحار والمحيطات، وعرفتها شتى شعوب في العالمين القديم والحديث، بل يكاد يجزم بعض الباحثين بأن هذه الظاهرة شبيهة تماما بقطاع الطرق في اليابسة، الذين أخذوا يتربصون القوافل العابرة براً فيهاجمونها وينهبونها ويمنحون أنفسهم حقاً مشروعاً بذلك السلب، إذ يتوازعون الغنائم في ما بينهم ويعتاشون على تلك الغنائم، ومتى ما نفدت عادوا للكرّ والفرّ بعد تربص طريدتهم، وهي تعبر طريقها الوعر الطويل.

وما قطاع طرق اليابسة إلا أبناء عمومة لقطاع طرق بحريين منحهم التاريخ لقب القراصنة، الذي يعود جذر مفردته اللاتينية والإغريقية الأقدم الى كلمة «بيراتوس» الإغريقية، التي اشتقت من فعل بمعنى يهاجم، والتي استعارت اللغات الأوروبية وتحديدا الإنكليزية منها كلمتها الشهيرة حاليا، وهي كلمة pirates، وإذا ما كانت مشتقات الكلمة القديمة تنزع إلى معاني الفردية والدلالات المختلفة، فإنها في النهاية رست على أنها نوع من المهن الخاصة التي لا تقام لها مكاتب عامة أو مناصب رسمية، وبأن ممارسيها ليسوا منتظمين أو يدفع لهم من قبل حكومة معينة، ولهذا نلتقي اليوم نوعا من الأشخاص المحتالين والنصابين الذين ينتحلون شخصيات وهمية زائفة بأن يتعللوا ويختفوا تحت عباءة «أعمال حرة!!» كلما سألت أحدهم: ماذا تعمل هذه الأيام؟ يرد عليك بخطاب مستهلك تستدعيه حاجة السوق واللحظة السائدة، مع العلم أن صاحبنا المحتال، صاحب مهنة «الأعمال الحرة» خرج لتوه من السجن بعد أن أمضى محكومية النصب، وبذلك يتطفل القراصنة على خرق القانون ويسيئون للأعمال التجارية المشروعة تحت مسميات كثيرة.

ولا نعجب أن نسمع أمراء الحرب في الصومال، عندما تحولوا باتجاه القرصنة، يقولون إننا نمارس حق الدفاع عن مياهنا، وشباك صيادينا التي عبثت بها السفن الدولية الكبيرة التي تصطاد في مياهنا، ومن حقنا منعهم وردعهم بقانون القوة، وهو القانون الذي يمارسه «بلطجية» الشوارع والساسة في بعض الأحيان، حينما تخونهم الذرائع والحجج القانونية في شرعنة فعلهم.

ففي القرن السابع عشر أصدرت الحكومة البريطانية رسائل من الديوان الرسمي إلى الأشخاص الذين يديرون حروبهم بصورة خاصة، بمنحهم حق الهجوم على السفن التجارية المعادية، وبتشبيه تلك السفن المتطوعة ببحارتها للاعتداء تشبيها جزئيا ومرادفا للقرصنة.

هذا التصريح البريطاني سيفتح آفاقا واسعة للتلاعب والصراعات حول مناطق المستعمرات وممراتها الحيوية، والاختفاء من خلال العمل السياسي والتجاري اللامشروع، خلف قناع القرصنة «المشرعنة» من البلاطات والدواوين الرسمية!!

من حاكوا ونسجوا قانون الفوضى «الخلاقة» منذ وقت طويل، يعودون ويلعبون بها اليوم في القرن الأفريقي، بترك قراصنة الصومال وأمرائه الجدد يفعلون ما يمكنهم فعله، حيث نجدهم اليوم يمتلكون قوارب سريعة ومسلحة بأسلحة متطورة، ولديها وسائل اتصالات متقدمة مع الأقمار الصناعية، وتمتلك معلومات دقيقة عن طبيعة السفن وما تحمله على متنها من بضائع، فقد نظم خبراء الصومال في البحرية خبرتهم الأكاديمية بعد أن نفدت كل ذخائرهم وباتوا مفلسين، فاتفق اللصوص التقليديون في البحر مع زمر أنهكتها الحرب الأهلية وعطلت مصادر دخلها، فكان من الطبيعي أن تجتمع تلك العناصر مع طرف ثالث هم أمراء الحرب في الصومال، الذين يديرون حربا أهلية قائمة على النعرات المناطقية والقبلية والدينية.

وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن مصادر الدعم المالي قد تراجعت وشحت في الفترة الأخيرة بسبب ملاحقة الإرهاب ودعمه المالي، فإن المتحاربين في الصومال يشعرون بأن الأموال المتناقصة من أهم العناصر التي تضخ الدم الى ماكينة تلك الحرب، ولن تكون هذه المرة إلا الفدية القادمة من سفن عابرة للقرن الأفريقي، الذي تمر عبره العشرات من السفن شهريا لأهميته الحيوية.

من فضلوا استلام الفدية نقدا وبالملايين وتقاسموها بطريقتهم، كانوا يجيدون لعبة التفاوض بكل فنونها ويتصلون ويحاورون مؤسسات ودولا تضمن لهم ذلك الحق المبرر، كما بررته في السابق دول استعمارية، لكي تفتح بعدها النار عليها دفعة واحدة.

من أغمضوا العين مؤقتا عن القراصنة الصوماليين، كانوا يخططون لتوريطهم بتجاوز حدودهم الشرعية في الاعتداء على المياه الدولية، لكي يجد الناتو والاتحاد الأوروبي ذريعة سهلة للتدخل العسكري في الأراضي الصومالية ويغرقها بالتدمير الإضافي بحثا عن العدو الأهم والأول وهو الإرهاب، خصوصا أن الصومال لم يتطور بصورة كافية لامتلاك أسلحة دمار شامل! فقد صار بؤرة تجمع مركزي للإرهاب كالمناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان، مما يعني أن القارة الأفريقية مهددة بالوباء نفسه مستقبلا، وينبغي الإسراع بمحاصرة الصومال بشتى الطرق بما فيها الإنزال العسكري المتوقع.

* كاتب بحريني

back to top