داني بويل... رجل الحلول المثلى

نشر في 04-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 04-12-2008 | 00:00

لم يكن داني بويل قد فرغ من التصوير في تاج محل عندما مُنع من دخوله. احتاج هذا المخرج البريطاني إلى تصوير بعض اللقطات داخل هذا المعلم الهندي ليضمّنها فيلمه الجديد Slumdog Millionaire، الذي يروي قصة فتى يتيم في أحياء مومباي الشعبية، لكن لم يعد مرحّباً بهذا المخرج في تاج محل. يخبر بويل: «توقف مَن كانوا يدعموننا عن مساعدتنا».

يكتفي بعض المخرجين في هذه الحالة بالمشاهد التي التقطها ويحاول آخرون البحث عن موقع آخر، حتى أنّ قليلين منهم يطلبون من دار للمؤثرات الخاصة إعادة رسم القصر بواسطة الكمبيوتر، إلا أن بويل قلما يرضى بالتقليدي والمتعارف عليه، فتمكن، بتفكيره المبدع، الذي ولّد أفلاماً متنوعة، من التوصل إلى حل مبتكَر. أرسل إلى تاج محل طاقم عمل ادعى أنه يعمل على تصوير فيلم وثائقي وحصل على اللقطات الضرورية.

عن فريق عمل Slumdog Millionaire الذي ذهب إلى تاج محل يقول بويل: «لا أذكر إن كانوا قد ادعوا أنهم هنود أو ألمان أو فريق مشترك». ارتكزت هذه الحيلة على اختيار أفراد من فريق الإنتاج لم يزوروا المعلم الهندي سابقاً كي لا يفضح رجال الأمن أمرهم. يضيف بويل موضحاً: «اعتمدنا الحيلة والخداع».

حصل بويل في النهاية على مراده، إلا أن هذا الأمر لم يكن العقبة الوحيدة التي اعترضت سبيله خلال التصوير الذي استغرق ستة أشهر تجوّل خلالها في أرجاء مومباي، إحدى أكثر مدن العالم اكتظاظاً بالسكان.

عقبات

أثناء اختيار ممثلي الفيلم، قرر بويل وزميلته في الإخراج الهندية لوفلين تاندن تصوير الثلث الأول من الفيلم باللغة الهندية لا الإنكليزية، فشكل ذلك صفعة على وجه المنتجين الفرنسيين والأميركيين، لأنهم يدركون أن الأفلام الناطقة بلغة أجنبية لا تبلي حسناً على شباك التذاكر، كذلك واجه بويل لاحقاً شحاً في التمويل، فاضطر إلى إلغاء مشهد عن إعصار موسمي، وأثناء وضع اللمسات الأخيرة على الفيلم، أقفلت شركة Warner Bros. الموزع الأميركي Warner Independent Pictures، ودرست، مدة وجيزة، احتمال إنزال فيلم Slumdog Millionaire على شريط فيديو مباشرة، قبل أن تهب شركة Fox Searching إلى نجدته.

يدور هذا الفيلم حول القدر، وكما أن روح مومباي المناضلة حفزت بويل وطاقم عمله، كذلك بدلت قصة الفيلم المتفائلة مصير Slumdog Millionaire. في معرض الحديث عن العمل في مومباي يؤكد بويل بفرح أنك «إذا وثقت بهذه المدينة، فلن تخذلك بالتأكيد».

هذا ما حدث بالتحديد مع فيلم Slumdog Millionaire، فلم يعثر على موزع جديد فحسب (تتقاسم Fox Searchlight الكلفة والأرباح مع Warner Bros) بل اعتبره النقاد من أفضل أفلام موسم الأعياد.

بعدما عُرض للمرة الأولى في مهرجان Telliride السينمائي خلال عطلة عيد العمال، عُرض في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي أيضاً، وفاز بجائزة «اختيار الناس»، هذا شرف مُنح سابقاً لفيلمي American Beauty وChariots of Fire.

مخرج لامع

لا تشكل هذه النتيجة مفاجأة في نظر المطلعين على مسيرة بويل المهنية. قدّم هذا المخرج البالغ من العمر 52 سنة مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية. صوّر فيلم رعب (281Days Later) وآخر للأطفال (Millions) وفيلماً من نوع الخيال العلمي (Sunshine) وفيلمين مع نجمين: The Beach مع ليوناردو دي كابريو وA life Less Ordinary مع كاميرون دياز، فضلاً عن الفيلم المخيف والمضحك والمحزن والمقزز الذي يصعب تصنيفه ويتمحور حول المخدرات Trainspotting.

على الرغم من تنوع هذه الأفلام، تجمع بينها رؤية بويل الخيالية: صور غير متوقعة في أماكن غير متوقعة، مثل أطفال يحبون على السقف ومنازل تظهر فجأة من حيث لا ندري، ووحوش مفترسة تركض بسرعة البرق.

يوضح بويل: «أحاول دوماً صياغة أفلامي بقوة، فتأتي قوية بما تجسد من لذة وخوف وفرح. أسعى باستمرار وراء هذه القوة لأنها المقياس الذي أقيّم من خلاله شتى المسائل».

بين الواقع والخيال

لا شك في أن فيلم Slumdog Millionaire المخصص للبالغين يحتوي الكثير من المشاهد القوية، مثل مشاهد التعذيب الموجزة إنما المؤثرة ولمحة عن دعارة المراهقين وغيرها من الأعمال الفظيعة التي يتعرض لها الأولاد المشردون. لكن وسط هذه المآسي، نرى صفة قلما لاحظناها في أفلام بويل الأخرى، ألا وهي الواقعية.

صحيح أن Slumdog Millionaire من نسج الخيال، إلا أنه يبدو واقعياً جداً، حتى أنّ البعض خاله قصة حقيقية.

اقتبس سايمون بوفوي قصة الفيلم من رواية فيكاس سواروب Q and A، يعيش جمال ماليك (يؤدي دوره المراهق ديف باتل) يتيم وفقير في أحياء مومباي الشعبية المكتظة التي تضم نصف سكان المدينة البالغ عددهم ستة عشر مليوناً. في طفولته يلتقي بلاتيكا (تؤدي دورها المراهقة فريدا بينتو)، فتاة من أولاد الشوارع في الهند.

تزخر أسفار جمال حين يكون صغيراً بالكثير من اللقاءات التي لا تُنسى، مع أن بعضها محزن، فتحوّله هذه التجارب إلى رجل رومنسي حالم يصمم على استعادة لاتيكا.

عندما يُشارك جمال في النسخة الهندية من برنامج «مَن سيربح المليون؟» تساعده معلوماته الدقيقة على بلوغ مرحلة متقدمة جداً، حتى أنّ المحقق (إفرام خان) ومقدم البرنامج (أنيل كابور) يظنان أنه يغشّ.

بعدما قرر بويل إخراج الفيلم، سافر إلى مومباي ليستكشف إمكان التصوير هناك. يصف بويل تأثره بحيوية سكان تلك المدينة: «بُعيد وصولي شعرت أنّه من الضروري أن أخرج هذا الفيلم هنا».

يتابع موضحاً: «يعتبر البعض هذه المدينة مكاناً بغيضاً ويهرع عائداً إلى الفندق ليغادر المدينة في أول طائرة. إنها إهانة، كل شيء فيها مثير للاهتمام، من الناس إلى الرائحة والحرارة والتراب والجو والهواء والماء والخطر، ‘لا تلمس هذا! لا تشرب هذه! لا تأكل تلك!’ نتيجة لذلك، يساهم الكل في إحداث جو مفعم بالحركة».

لكن ثمة اختلاف كبير بين تقدير روح المدينة وتصويرها من خلال عدسة الكاميرا، إلا أن بويل يملك دوماً الحل، فبدل أن يحلّ على هذا المكان دخيلاً إمبريالياً، أحضر معه مجموعة من مسؤولي الأقسام البريطانيين وعمل على توظيف الكثير من العاملين في صناعة الأفلام في الهند، وبما أن معظم الشخصيات أولاد، اختار غالبيتهم من الممثلين المبتدئين المحليين. إلا أن واقعية هذا الفيلم المميزة لم تنبع من الممثلين (أو تكلّم الممثلين الصغار الهندية أو التسلل إلى تاج محل).

صحيح أن رواية سواروب متقطعة زمنياً، إلا أن بوفوي أحدث ما يدعوه بويل «زمناً مبهماً» تكون فيه الفواصل بين الحاضر والماضي (يعود الفيلم بالزمن مدة عقد تقريباً) غير واضحة. كذلك يظهر هذا التلاعب بالزمن بوضوح في المشاهد المعاصرة، التي تخلط بين مسرح البرنامج التلفزيوني وغرفة التحقيق في مركز الشرطة. ومع أن جمال موجود في كلا المكانين، يشعر المشاهد أن الأحداث تنكشف على التوالي. يوضح بويل: «أردت من خلال هذا الأسلوب أن يشعر الجميع أن الأحداث تدور في الحاضر، مع أنها وقعت قبل عشر سنوات تقريباً».

لذلك عندما يسأل مقدم البرنامج لاتيكا عن اسمها، يعيدنا بويل إلى المشهد الذي قدمت فيه نفسها إلى جمال وهي في السابعة من عمرها. يذكر بويل: «نتيجة لذلك، تشعر بتأثير القدر، قلما يعتمد المخرجون هذه الطريقة، ولم يسبق أن عدلت أنا نفسي التسلسل الزمني بهذا المقدار الكبير من الحرية».

عندما يعود بويل إلى الماضي، لا يقدم للمشاهد الإشارات المعتادة التي تخبره بأن الزمن تبدل، مثل السيارات أو الثياب المختلفة، يذكر السبب، قائلاً: «لم أرد أن تتبدل نظرة المشاهد بتبدل الفترة الزمنية، فهذا أمر مزعج في نظري».

علاوة على ذلك، يدرك بويل وفريقه أن تزويد هذه الإشارات سيكون مستحيلاً، يوضح هذه النقطة: «لا يشعر السكان المحليون بكثير من الحنين إلى الماضي لأنه من الصعب التحكم في الهند، ولا شك في أن تصوير فيلم عن حقبة معينة في هذا البلد واتباع التفاصيل التاريخية يشكلان كابوساً مخيفاً، لذلك تجاهلنا هذه التفاصيل كلها».

بلغت ميزانية الفيلم 15 مليون دولار. ملأ بويل خلفيات مشاهده بأشخاص لا ينتمون إلى عالم التمثيل، فعندما تطارد الشرطة جمال الشاب وأصدقاءه في أحياء مومباي الشعبية، يظهر على الشاشة سكان تلك المناطق الحقيقيون لا ممثلون مستأجرون.

ليجسد ديناميكية المدينة، استخدم بويل ثلاثة أنواع من آلات التصوير، بما فيها كاميرا فوتوغرافية من نوع Canon تلتقط 11 صورة في الثانية وتقدم صوراً عالية الوضوح أدخلها في الفيلم.

عن هذه المسألة يذكر بويل: «يتعلق فيلمنا بالذاكرة واسترجاع الأحداث بالطريقة التي يخزّن فيها ذهننا الصور، لذلك استخدمنا هذه الكاميرا في لحظات أساسية، مثل صورة لاتيكا عندما يفقدها جمال في محطة القطار. فهذه الصورة انطبعت في ذهنه».

back to top