موعد في برنستون

نشر في 09-04-2009
آخر تحديث 09-04-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد لبيت دعوة من جامعة برنستون الأميركية للمشاركة في فعاليات مؤتمر فائق الأهمية عن تركيا عُقد في الفترة من 20 و21 من مارس أي قبيل الزيارة الحالية للرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما إلى تركيا. وألقى البروفيسور أحمد داود أوغلو كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي كلمة في هذا المؤتمر لخص فيها موقف بلاده من جوارها الإقليمي والعالم، وستكون كلمته موضوع المقال القادم إن شاء الله. ولأن المؤتمر عقد في مكان له أهميته الأكاديمية الاستثنائية، فقد ارتأيت عزيزي القارئ أن يتناول هذا المقال جامعة برنستون التي استضافت المؤتمر محاولاً إلقاء الضوء على دورها الاستثنائي وأهميتها التاريخية، بسبب أن الجامعات عموماً هي الوسيلة التي لا تستغني عنها المجتمعات المتقدمة لتعزيز مكانتها العلمية والاقتصادية على المستوى الدولي، و"المفرخة" التي تعيد إنتاج النخبة السياسية. لذلك لا تقل أهمية الجامعات أهمية عن أشد الأسلحة فتكاً وأكثر تقنيات الاتصال تقدماً. وكلما كانت الجامعة محققة لهذه الأهداف كلما تقدم موقعها عالمياً وذاعت شهرتها، واتسع صيتها في المحافل الأكاديمية والعلمية، وكلما سعى إليها السياسيون من دول العالم المختلفة لمخاطبة النخبة الأميركية الأكاديمية، وهو ما فعله أحمد داود أوغلو في المؤتمر المشار إليه. تعد جامعة برنستون، الواقعة في مدينة برنستون بولاية نيوجيرسي على الساحل الشرقي من الولايات المتحدة الأميركية، واحدة من أهم جامعات العالم على الإطلاق، وأكثرها تأثيراً ونفوذاً على المستويين الأميركي والدولي. تأسست جامعة برنستون عام 1746 أي قبل الاستقلال والثورة الأميركية، وهي عضو في مجموعة "الثلاثة الكبار" الشهيرة في أميركا والتي تضم معها جامعتي "هارفارد" و"ييل"، ويقصد بهذا المصطلح الجامعات المفضلة لدى الطبقة العليا في الولايات المتحدة، والحاضنة الأكاديمية لنخبتها السياسية. يتوزع خريجي جامعة برنستون على مفاصل السياسة والاقتصاد في أميركا؛ ويكفي للتدليل على نفوذها ونخبويتها الاجتماعية والسياسية أن تعرف عزيزي القارئ أن جيمس ماديسون الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأميركية وأيضاً وودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين لأميركا، وسيدة أميركا الأولى ميشيل أوباما كلهم من خريجي جامعة برنستون. يدرس في جامعة برنستون أقل من 5000 طالب في كل سنوات الدراسة وفي كل الكليات، كما يبلغ عدد طالبي الدراسات العليا فيها حوالي 2400 طالب، في حين يبلغ عدد أعضاء الهيئة الأكاديمية بكل درجاتهم ألف عالم ومثلهم من الإداريين والموظفين والعمال. تبهرك هذه الأرقام لأنك تعلم أن صفاً دراسياً واحداً في إحدى الكليات العربية يفوق عدد كل المنتمين إلى جامعة برنستون بكل مراحلها وفئاتها طلاباً وعلماء وموظفين! وإذ تضيق ساحات وقاعات الدرس في الكثير من الجامعات العربية، فإن طلاب جامعة برنستون ينتشرون على مباني الجامعة المختلفة والمنتشرة على مساحة اثنين ونصف كيلو متراً مربعاً. تعد "قاعة ناساو" أقدم قاعة في جامعة برنستون، وحين تصعد درجات السلم القليلة المؤدية إلى القاعة تلاحظ النمور الرخامية وقد اصطفت على جانبي السلم باعتبار أن النمر هو شعار الجامعة. وفي مقابل قاعة كليو ذات الأعمدة الرخامية البيضاء التي تشبه مبنى من الحضارة الرومانية القديمة، فهناك طراز معماري آخر يتجسد في "قاعة روبرتسون" البيضاء اللون وحديثة الطراز، أما "قاعة جونز" التي تضم قسم دراسات الشرق الأوسط فهي مبنى عريق على الطراز الإنكليزي عبارة عن قبو تعقد فيه المؤتمرات وطابقين. المفروشات أثرية وفخمة، فيشعر الجالس في هذه القاعة أن الزمان قد رجع به إلى العصر الفيكتوري. ولا تقتصر ممتلكات الجامعة على الأثاث، إذ تملك جامعة برنستون أيضاً واحدة من أهم مجموعات البردي المصرية في العالم، والتي لم ينشر منها حتى الآن سوى ثمانية فقط من أصل 115 بردية كتبت باللغتين القبطية والعربية. تدير جامعة برنستون تبرعات تزيد على 16 مليار دولار للإنفاق على أبحاثها العلمية والأكاديمية، وهي جامعة خاصة وغير حكومية وتبلغ نفقات الدراسة للعام الدراسي الواحد لكل طالب حوالي خمسة وثلاثين ألف دولار أميركي. وإذا حسبنا حجم التبرعات مقارنة بعدد الطلاب يتضح أن طالب برنستون هو الأول على مستوى العالم من حيث الإنفاق عليه، فيمكننا أن نتخيل المستوى العلمي. تستطيع أن تختلف مع سياسات الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط مثل كاتب السطور، وتستطيع أن تعدد خطايا السياسة الأميركية وتأثيراتها السلبية على النظام الدولي الراهن أحادي القطبية، ولكنك لا تستطيع أن تبخس جامعات أميركا قدرها الكبير والمعتبر في تشكيل التطور العلمي العالمي. وبالنتيجة تستطيع أن تختلف مع منطلقات وأفكار المستشرق الأشهر في عصرنا الراهن برنارد لويس، وهو اختلاف أساسي لا يمكن تجسيره في اعتقادي، ولكنك لا تستطيع أن تنكر معارف الرجل الموسوعية وقدره العلمي الكبير، وهو بالمناسبة بروفيسور في قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون! هنا يجب أن يصبح الاختلاف وسيلة للتعلم من الآخر من أجل تضييق الفجوة المعرفية معه، وليس الاكتفاء بمجرد الخصومة الإيديولوجية التي لا تنفع ولا تفيد.

تقلب النظر في المآل الذي آلت إليه الأوضاع في الدول العربية وخطواتك تقودك إلى بوابة الجامعة الأثرية، فتلاحظ أنه لا يمكن لمؤامرة خارجية أن تقوم بكل هذا الانحدار وحدها، بل إن تردي حال السياسة العربية يعود أساساً إلى تردي حال الجامعة، وبالمقابل فالصدارة الأميركية للعالم تستمد بالأساس من جامعاتها وتفوقها الأكاديمي. لماذا نذهب بعيداً؟ المثال الأسطع على الترابط العضوي بين السياسة والجامعة يتضح في ملاحظة دور مصر السياسي والإقليمي طوال الفترة الممتدة من الأربعينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي. وقتها كانت القاهرة تسير في مقدم دول المنطقة سياسياً، وفي الوقت ذاته كانت جامعة القاهرة رائدة في المنطقة من حيث التأسيس والمعارف، وساهمت في إنتاج النخبة السياسية المصرية وكثير من رموز النخبة في البلاد العربية. ولذلك فلم تكن مصادفة أن تلعب مصر هذا الدور السياسي في هذه الفترة، أما اليوم فلا تدخل جامعة القاهرة- التي نحب ونحترم- ضمن أفضل خمسمائة جامعة في العالم للأسف الشديد، وبقية المعادلة واضحة ومعروفة.

تخرج من جامعة برنستون العريقة بأفضل مما دخلتها، وعزيمتك على الإنتاج العلمي قد توهجت وازدادت إصراراً، إنها ليست دعوة للاستسلام بملاحظة الواقع الراهن، بل هي دعوة إلى التعلم والعمل!

 

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top