القصائد المائيّة... دراسات أسلوبيّة في شعر نزار قباني
يتوصل الباحث سمير الشيخ في دراسته الأسلوبية لشعر نزار قباني، في كتابه «القصائد المائية»، الى مقولة «الاسلوبية النزارية»، لاعتبارات عدة منها أن الشعر في المعتقد النزاري «إبداع» لا يصور الواقع دائما، واذا صوّر بعضه قدّمه في أساليب فنية لا تقصد المحاكاة او الرواية، بل الإبداع والابتكار.
يرى الناقد أن «النزارية» أسولبية جمالية تشكلت مستوياتها الشكلية عبر مدوّنة الشاعر، التي شهدت لأكثر من نصف قرن تحوّلات على مستوى البنية والتفكير، بالإضافة الى أن للنزارية إحداثيات ثلاث هي: الحدس الغنائي والجمال الايروسي وفن الوضوح معتبراً أن في شعر قباني بعض القصائد التي تتميز بوجود المونولوج الدرامي فيها، وأن النص النزاري يتوافر على قدر من عناصر القص والدراما، كالبنية السردية في قصيدة «البغي» في ديوانه «قالت لي السمراء»، والتي تتضمن عددا من الوحدات الإيحائية في الصورة المتخيلة للعالم، حيث الأوضاع الإنسانية التراجيدية التي يعيشها البشر في المكان. لا ينسى الناقد الإشارة في كتابه الى المشهدية في نص قباني الشعري في القصيدة نفسها أعلاه، حيث نميز بين الصنيعة الفعلية التي تعني الحركة والصنيعة الوصفية التي لها وظيفة سردية بحسب تعبير جيرار جينيه، فللوصف بحسب هذا الأخير وظيفتان: جمالية، ودلالية ترابطية. أما قصائد الحوار في شعر قباني فلها نصيبها من النقد والتحليل عندما يشكل الحوار عنصرا وظيفيا في الأجناس الأدبية، وهو (الحوار) في أقل تعريف له، تبادل للألفاظ بين عدد من الأشخاص المتخيلين، في الرواية والدراما والشعر. كذلك يعني الحوار تحديدا الاستخدام المبني بصورة كلية على أجزاء القول، دونما قصد في العرض المسرحي. يعتبر الشيخ أن قصيدة «حوار» المبنية على جملة القول الشعري، تشكل السمة المميزة للبوايكر النزارية. التحليل الأسلوبي لما يُسمى بـ «القصيدة البحرية»، إحدى قصائد المجموعة الشعرية «الرسم بالكلمات» الصادرة عام 1967 وتضم 33 نصا شعريا لتشكل في كليتها الكون الشعري لقباني القائم على الإدراك الإنساني لمبدأ الجمال، يعتبره «تجربة جمالية مكتنزة بالألوان والمراكز والسطوع وما يقابلها من حركة نفسية تتجلى في لذة الدهشة إزاء مواضيع العالم المحسوس، اما الانفعالات التي تثيرها قصيدة «عينان زرقاوان» فتتحول الى صور دافقة متموّجة من الجمال التعبيري».تتألف القصيدة البحرية من سبعة مقاطع شعرية تتساوى في عدد الأبيات. يقوم النص بكليته على مبدأ الموازاة بين الأبنية النحوية: تكاد الجمل الإسمية والفعلية تتساوى من ناحية العدد. تلك التماثلات المنتظمة في الأبنية النحوية هي تماثلات بين الثبات والحركة قائمة في العالم الخارجي... والملاحظ أن الجمل الإسمية هي التي تهيمن على المقاطع الشعرية الثلاثة الأولى للنص:في مرفأ عينيك الأزرقأمطار من ضوء مسموعشباك بحري مفتوحوشموس دائخة... وقلوعوطيور في الأبعاد تلوحترسم رحلتها للمطلقتبحث عن جزر لم تخلقفي مرفا عينيك الأزرقيتساقط ثلج في تموزومراكب حبلى بالفيروزأغرقت البحر ولم تغرقتظلّ تلك الصور المتوالية، على الرغم من كونها استعارات يراد بها خلق الجو والألوان والشكل، مجرد لوحات ولا يفتأ المنهج السكوني أن يتحول الى منهج موار بالحركة الدافقة، حيث تصبح الجمل الفعلية هي المحرك الأساسي لاتجاه القصيدة: في مرفأ عينيك الأزرقأركض كالطفل على الصخرأستنشق رائحة البحروأعود كعصفور مرهق*******في مرفأ عينيك الأزرقأحلم بالبحر وبالإبحاروأصيد ملايين الأقماروعقود اللؤلؤ والزنبق******«وبهذا تكاد الأبنية النحوية توازي الحركة النفسية للشاعر المتذوق في انتقالاتها من الثابت الى المتحوّل... وثمة خاصية أسلوبية أخرى تفضح عنها الموازاة الشعرية تلك، هي الأفعال وأطوالها وأوزانها في النص. فالأفعال (أركض، أحلم، أبحث، يغرق) كلها أفعال مضارعة متناثرة عبر مقاطع النص».استعارة الماءبالعودة الى القصائد المائية ضمن الأسلوبية النزارية، نجد أنها تغلب عليها استعارة الماء، في مجموعته الشعرية «أشهد أن لا امرأة إلا أنت». يقول الناقد إن التأمل الأسلوبي لنصوص المجموعة يبين لنا أن العنصر الذي يحرك المسار الشعري للنصوص هو المستوى الدلالي وتحديدا استعارات الجمال المرتبطة ارتباطا وظيفيا بدلالة الماء: «يغسلني حبك من بداوتي»«يدخلني في قصره المائي كل ليلة يدخلني في زرقة العبارة».يصل الناقد إلى مصطلحاته النقدية ومسمياته بعد استفاضة في استعراض بعض الدراسات الأسلوبية والنقدية واللسانية في العالم: السوسور وشومسكي وويلك واوستن ومالنوفسكي وتودروروف وموكاروفسكي وغيرهم، ليخلص الى اعتبار أن الصورة الشعرية بحسب هؤلاء، والاستعارة تحديدا، تقوم على مبدأ الماهيات المتغايرة عبر مدينة مستترة، إلا أن الألفاظ في الأبنية الاستعمارية تحمل أبعاداً جديدة، ذلك أن معنى الشعر يعتمد على السياق، فالاستعارة هي تمثيل للشعور وتعتمد فاعليتها كمبدأ لساني بالدرجة الأساس على خاصيتها المحرفة، وهي بنية جمالية وبنية للمعنى، من هنا يمكن إدخال المدوّنة الشعرية النزارية في دائرة التحليل الأسلوبي.يعتبر هذا الكتاب، الذي يقع في 206 صفحات من القطع الوسط، مثيراً للاهتمام، كونه يتسم بإبراز النقد الأسلوبي كاتجاه قوّم فيه النقد على أساس من العلم، فالنقد الأسلوبي هو دراسة العلاقة المكبوتة في النص الأدبي بين شكله اللساني والجمالي الكلي.الكتاب صادر عن «دار الفارابي» الطبعة الأولى بيروت 2008