الخيال

نشر في 24-04-2009
آخر تحديث 24-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان الخيال زاد المبدع وقُوتُه ومصدر قوّته وقدرته على التجديد والتجاوز والانفلات من قفص المألوف والمعروف، والخيال هو السلم الذي أعان الإنسان على الصعود والانتقال من ظلام الجحور والكهوف إلى الحياة في الأبراج وإلى ارتياد الفضاء، والخيال أيضاً يغير العالم ويجدده ويضيف إليه بين لحظة وأخرى الجميل والمفيد والمدهش والعديد من المُبتكرات في كل المجالات.

ويكفي أن نتذكر الأجداد الذين لم يعرفوا السيارات أو الطائرات أو السينما والتلفزيون والهواتف بكل أشكالها لنعرف كم تغير العالم تماماً في القرن الأخير، وقد كان الخيال مبدع هذه المبتكرات، فقد حلم الإنسان القديم برؤية البعيد وبالطيران والتحليق والتحرر من الرتابة والجمود والتكرار واكتشاف بدائل أخرى تجمل وجوده وتثريه.

و«الخيال» كتاب مهم أصدرته سلسلة عالم المعرفة في الفترة الأخيرة وهو أحدث مؤلفات د. شاكر عبد الحميد الذي يقول في مقدمة كتابه «يحاول هذا الكتاب أن يستكشف بعض جوانب الخيال، وأن يتعرف كيف نظر الإنسان إليه وكيف تمثله وفسره عبر التاريخ» والعبارة تشير إلى البحث والغوص في الفن وتاريخه والعلم والتراث والأدب والفلسفة سعياً لاستجلاء مفاهيم الخيال وأنواعه وأشكاله وفاعليته في العصور المختلفة، وكذلك ارتباطه بالحركة «حركة النفس من الأدنى إلى الأعلى عند أفلوطين وعند ابن عربي والحركة في المسرح والسينما والفن التشكيلي، والحركة كما تصورها موتسارت، وهو يقطف الألحان من الهواء»، والحركة فكرة محورية في الخيال العلمي وفي قصص ألف ليلة وليلة والحكايات الأسطورية والشعبية وروايات الواقعية السحرية.

ويتتبع الكاتب مفهوم الخيال عند الفلاسفة والمبدعين بدءاً من أفلاطون وأرسطو إلى فلاسفة الحداثة وما بعدها، مروراً بمفهوم الخيال عند ابن رشد والفارابي وابن سينا ومحيي الدين ابن عربي، وكيف نظر بعض الفلاسفة والعلماء نظرة متشككة إلى الخيال، وربطوه بالخداع الإدراكي وأحلام اليقظة وبالهلاوس والأشباح والقصص الخرافية.

ويصادفنا هذا الارتياب نفسه في بعض كتب التراث العربي والشعبي، فالشعراء الصعاليك صادقوا الغيلان وسابقوها في الصحراء وتزوجوها وحكايات الغيلان والمردة كانت زاداً لنا في القرى، ويتحدث الكاتب عن تقلبات الخيال واضطراباته مفرقاً بين الأحلام والهلاوس والكوابيس قائلاً «لا يحدث الخيال دائماً بطريقة عادية أو سوّية أو منظمة، فأحياناً يضطرب هذا الخيال وتتداخل أبعاده، فتحل الفوضى بين صوره وتشكيلاته، ومن أبرز مظاهر فوضى الصور والخيال ما يحدث أثناء الهلاوس التي ترجع غالباً إلى أسباب بيولوجية أو مرضية... والأحلام تشبه الهلاوس لكنها ترتبط بالنوم بينما تحدث الهلاوس أثناء اليقظة، أما الكوابيس فهي شكل من الأحلام يدخل خلالها محتوى عقليا مخيفا إلى الوعي يؤدي إلى استجابات انفعالية قوية كالصياح والاستيقاظ في حالة فزع».

لا يتناقض الخيال مع العقل بل يعمل على تنشيطه وإثرائه وشحذ طاقاته، وهو تفكير بالصورة كما قال أرسطو وسِجِلٌ لقدرة الإنسان الإبداعية التي تطورت عبر التاريخ ومكنته من غزو العالم واكتشافه وفهمه ومحاولة السيطرة عليه، يقول شاكر عبد الحميد ويؤكد الدور المحوري للخيال في تنمية وعي الطفل وفي مجالات العلوم، حيث التفكير البصري وسيلة مهمة لجعل الأفكار والمفاهيم مرئية، فالخيال كان ومازال سلاحاً للعالِم ومُفجراً للثورة العلمية والتكنولوجية التي غيرت العالم وجددته، ورسخت سلطة المعرفة وسطوتها.

ويجرنا هذ الحديث إلى التعليم قضيتنا الكبرى والتلاميذ المرايا الذين تخصصت مدارسنا وجامعاتنا في تشكيلهم وتنشئتهم فقط ليعكسوا، دون إضافة ما وبشكل بائس، ما أمامهم، بينما التعليم في العالم المتقدم ينشغل كما يقول الكاتب بالطالب المصباح المشع والمضيء والمتوهج، التعليم التقليدي المعتمد على الحفظ والتلقين وتعبئة التلميذ بالكتاب المدرسي لا ينتج سوى التلميذ المرآة الذي قد يحصل على الدرجة النهائية في امتحانات آخر العام، لكنه يظل عاجزا عن الابتكار والإبداع والإضافة.

وبسبب هذا التعليم صار الطالب المخترع المسكون بالفضول المعرفي غائباً أو نادر الوجود، لذلك يناشد الكاتب المسؤولين عن التعليم في بلادنا اتخاذ قرارات تجعل التعليم أكثر متعة، بأن يُضاف المكون الخاص بالخيال إليه، وأن تعطى درجات أكثر للطلاب الأكثر خيالاً، وأن يُعَدّ المعلم بطرائق لا تجعله من أعداء الخيال كما أشارت بعض البحوث الحديثة التي قالت إن المعلمين يعاقبون الطالب الخيالي والأكثر إبداعاً واختلافاً أكثر من عقابهم للطالب التقليدي أو الخامل، وأنهم لا يحبون في الغالب الطالب الفضولي المحب للاستطلاع والابتكار.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top