العدو

نشر في 03-04-2009
آخر تحديث 03-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان للعدو في الخيال الشعبي ملامح لا إنسانية ترسخها الأساطير والملاحم والحكايات الشعبية والخوف الغريزي من المجهول والمختلف والغامض، وهذه الملامح الوحشية يسهم الكبار في رسمها وتكريسها أحيانا بسياساتهم وأكاذيبهم وأجهزة إعلامهم لمنح العدو قدرة هائلة على التدمير والقتل والإيذاء، تمنحهم في المقابل الحق في محاصرته وإعلان الحرب عليه أو إبادته. وأذكّر هنا بالشاعر الأميركي «ألن غنسبرغ» وبقصيدته الشهيرة «أميركا» التي سخر فيها من بلاده وقادتها والصورة التي رسمتها أجهزة الإعلام للصينيين والروس في منتصف الخمسينيات، وهي القصيدة التي كانت سبب مصادرة ديوانه «عواء» في ذلك الوقت.

وللقاص والروائي الياباني «كينزا برو أوي» الحاصل على جائزة نوبل عام 1994 قصة بعنوان «صيد» وهي إحدى قصص مجموعة «زهرة الصيف» التي نشرتها قبل أعوام سلسلة إبداعات عالمية ترجمة نجاح سفر.

بطل القصة طفل يرى ويلعب ويحكي بلسان الطفل وبراءته: «في البلدة ما وراء الهضاب استمرت الحرب طويلا حتى تحولت إلى شيء ضخم ثقيل وأسطورة تنفث هواءها الفاسد فوق كل شيء... بالنسبة لنا لم تعن الحرب أكثر من غياب الشباب عن القرية والإعلان المفاجئ عن ميت في المعركة نتلمسه من ساعي البريد... حتى الطائرات المعادية التي بدأت التحليق أخيرا فوق القرية لم تكن سوى نوع من الطيور النادرة».

لكن أحداث الحرب العالمية تقتحم القرية وتفرض نفسها على القرويين القفراء والبسطاء عندما ترتطم طائرة حربية أميركية ليلا بالهضاب وتسقط محطمة ويخرج الكبار في الصباح للبحث عن الطيارين الأعداء في الحقول والغابات المجاورة مسلحين بالفؤوس والبلط والبنادق. «قال أخي الصغير متعجبا: ما شكل الأعداء؟... أجل تساءلت ويدي تحضن كتف أخي: كيف يكون شكل الأعداء وكيف يتخفون؟ ثم بدا فجأة أن الحقول والغابات جميعا حول القرية تمتلئ بالأعداء الذين يختبئون وهم يحبسون أنفاسهم».

بالإضافة إلى الأخ الصغير يحدثنا البطل عن والده الذي ينصب الفخاخ للأرانب والحيوانات البرية، وعن الغرفة الصغيرة التي يعيشون فيها الخالية من الأثاث، وعن الجوع الذي يداهمهم أحيانا، وعن الصيد الذي عاد به الكبار بعد رحلة البحث في الحقول والغابات «أحاط الكبار بصيدهم... انضغطت شفاههم بكآبة مثلما كان يحدث عندما يذهبون لصيد الخنازير في الشتاء... ساروا نحونا وظهورهم محنية وحزانى تقريبا... ركضت لملاقاتهم مع الأطفال الآخرين فرأيت رجلا أسود ضخما يحيطه الكبار يلبس سترة وبنطالا أخضرين غامقين وحذاء أخرق ثقيلا».

وكما يحدث عادة في القرى تتجمع النساء والأطفال لمتابعة مؤتمر الكبار الذين قرروا إرسال أحدهم إلى المدينة لإبلاغ السلطات، ثم قيدوا العدو الأسير بسلسلة حديدية وساقوه إلى القبو الذي يخزن فيه محصول الخريف. ولأن أحدا في المدينة لا يستطيع اتخاذ قرار ما بشأنه قبل إبلاغ حاكم الولاية تكتشف القرية أن عبء حراسة الأسير وإطعامه قد أُلقي على عاتقها، وقد قام الكبار به في البداية ثم انشغلوا بعد فترة بحقولهم ونشاطاتهم اليومية الأخرى تاركين للأطفال مهمة حراسة العدو الأسير وإطعامه.

«راقبناه ونحن نرتجف من البهجة... إنه يشبه الإنسان تماما» يقول البطل الطفل معلنا بدء التحول وإعادة اكتشاف العدو ورسم صورة جديدة له «نظر إلينا حين جلسنا بالقرب منه وفجأة برزت أسنانه واكتشفنا أن بإمكان الزنجي أن يضحك... كان يشدنا إليه برباط عميق ومتين».

العدو ليس وحشا مولعا بالقتل والتدمير ولن يهرب من القبو في الليل ليذبح الناس وكلاب الصيد ويطلق النار على المنازل. يكتشف الأطفال فينزعون قيوده ويسحبونه إلى الهواء الطلق ثم إلى النبع لكي يستحم ويتمدد معهم على العشب.

ومن جانبه حاول الأسير أن يكون مفيدا للقرية وجزءا منها لكن الكبار يأتون مسلحين لاستلامه وأخذه إلى المدينة فيلوذ بالقبو آخذا معه البطل كرهينة. «وثب الزنجي علي كحيوان رشيق وشدني بقوة إلى جسمه لحماية نفسه من البندقية». لكنهم بالبلط والفؤوس يحطمون باب القبو ثم جمجمة الأسير وكل الصور المزيفة التي رسموها للعدو ولأنفسهم في الوقت ذاته.

«لم أكن أطيق الكبار بمن فيهم أبي... الكبار الذين تقدموا نحوي بأسنان ظاهرة وهم يلوحون بالفؤوس... كانوا غريبين ومثيرين للغثيان بشكل لا أفهمه». والجدير بالذكر أن الروائي الياباني عايش في طفولته أحداث الحرب العالمية الثانية وأهوالها.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top