متى ننتهي من قتل السياسة؟

نشر في 29-07-2008
آخر تحديث 29-07-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ أما آن للسياسة أن تترجل؛ من علياء سجنها إلى بيداء الناس وفضاء المجتمعات؟ أما آن لنا أن نتنفس في حضرتها الطليقة؛ حضرة السياسة التي تعيش في أسر زنازين أنظمة سلطوية وشعبوية وقوى وتيارات سلطوية وشعبوية من خارج السلطة، لا تعاديها فقط، بل وتعادي معها أي قضية مجتمعية أو فكرية أو فلسفيّة، وهي في معاداتها للثقافة لم تعد تُعنى إلا بتكريس الطلاق مع السياسة، أي تكريس الطلاق مع المجتمع، اللهم إلا مع تلك الفئات أو النخب المستفيدة من وجود النظام نفسه، فضلاً عن استفادتها من طلاقه مع السياسة، وأولئك الهاتفين على الدوام نشيد «بالروح... بالدم نفديك يا...» في تكريس لروح استبدادي مقيم، لا يهتم بكم من الأرواح أو كم من الدماء قد تسفح أو تسفك أو لا تسفك من أجله. أو أن الأمر لا يتعدى قول أو ترديد شعارات لفظية ليس إلاّ.

* * *

بين العرس الوطني الجامع والمآتم المتواصلة في ثنايا حياتنا العربية العامة، شعرة. شعرة واحدة تفصل بين ما هو كائن وما قد يكون أو سيكون مؤقتا. الحرية أولى الضحايا وآخرها في مسيرة نجحت فيها عناصر العصبويات التفتيتية في فرض منطق لها هو السائد في المسار العام للسّياسة والاجتماع العربيين.

اليوم أمر... وغداً خمر، وخمر العصبويات التفتيتية لكل يوم، كل أيام الناس خمرها وخميرتها، تلك التي لم تعد تسكرها وحدها للأسف، بل صارت خمر كثرة كاثرة من العاديين الّذين ما تعاملوا أو تعامل الوعي معهم لكونه قاعدة اختمار خبراتهم وتجاربهم في دروب الحياة. تلك مأساتنا في أوطان مفترضة لها أسيادها أو سيدها، وعبيدها الفقراء الذين ضيّعوا أعمارهم لهاثاً خلف لقمة عيش مغمسة بالدم والدموع وبالهوان، وبالتذلّل على أعتاب الزعامات القطيعية والزبائنيّة والدكاكينية والزواريبية؛ الدينية منها كما السياسية والاجتماعية والمالية، كلها سواء بسواء في نظرتها للإنسان.

* * *

متى ننتهي من قتل السياسة، بل متى تتوقف السياسة عن قتلنا؟ سؤال ذو وجهين يتجادلان في اشتغالهما وفي موضوعات هذا الاشتغال، الأول يشير إلى سلبية التعاطي مع السلطة القامعة للحرية السياسية، وكونها العامل الأول الحاض على قتل السياسة، والثاني يؤشر إلى التلقي السلبي من جانب الناس ومن جانب السلطة على حد سواء ؛ للسياسة لكونها عامل القطيعة الوحيد أو عامل التقاطع الوحيد الرابط بين طرفين أو أكثر، لايجيد التعاطي معها سوى الدولة -وليس أي دولة- الدولة هي صانعة السياسة، بل صنيعتها، أما السلطة فهي القاتلة لها في الكثير من الأحيان، أو على الأقل العاملة أو العامدة إلى تغييبها طوعاً أو قسراً، ذلك أنها لا يمكن أن تتعايش ونقائض لها فوق أرض واحدة.

السياسة ضحيتنا جميعاً؛ ضحية كل سلطة قاهرة، متجبرة؛ ضحية كل قهر يروم فرض رؤاه على الآخرين، وضحية كل فطرة تزعم أنها كذلك في أزمنة لم يعد فيها للفطرة ما يقيها من شرور وغدر التّجارب والخبرات التاريخية التي أمست أكثر انكشافاً ووضوحاً وشفافية.

قتل السياسة من شيم السلطة -أي سلطة- طالما أن السياسة عنصر الضبط والاندماج لحدود المصالح المتعارضة أو حتّى المتناقضة. أمّا الدّولة فهي صانعة السياسة كما هي صنيعتها، بما أن السياسة قيمة من قيم ثقافية وفلسفية وفكرية ينبغي لها أن تجتمع وقيم الحرية والعدل والمساواة والأخلاق في بوتقة واحدة، أو تتعايش تحت خيمة واحدة، وإلا ففي ضوء خبراتنا وتجاربنا المعاشة؛ فهي قلما اجتمعت أو تجتمع في النطاقات التي تروم اجتماعها فيه كضرورة من ضرورات الحياة السياسية.

* * *

من أولى موجبات السياسة الحوار، على أن من أولى موجبات الحوار افتراض وجود السياسة وخلقها طالما وكلما أمكن ذلك، استنادا إلى ضرورة مهمة من أولى مهام اشتغالها نفي النقائض والتباغض والتباعد واللاحوار أو معالجة «طرش الحوار» على ما درجت عاداتنا، وتقاليد راسخة في «حوار طرشان منتج». وقد رأينا في السنوات الأخيرة كيف أن إدارة سيئة لأي حوار؛ قد تفضي إلى تقاتل أو ما يشبه الحرب الأهلية. كما أن إدارة الظّهر للحوار قد لا تؤدي إلى نتائج أقل مأساوية وكارثية، على أن عدم قيام حوار منتج حقاً، جاد وضروري إزاء موضوعات خلافية لا تستقيم دروب الوصول إلى التوافق في شأنها بغير الحوار، هي بمنزلة مقتلة أخرى من مقاتل النزاعات الأهلية والجروح المفتوحة دوماً على «غرغرينا» القطع من دون الوصل، والقطيعة من دون التواصل.

* * *

ولأن غيبة السياسة أو في ظل غيبوبتها تضحي المثالات واقعاً يتطاول باستمرار، فإن هوامش الأخطاء والخطايا في الحسابات العربية، كما والإقليمية والدولية أضحت كبيرة وكبيرة جدا، بغض النظر عن وجود المؤسسات الديمقراطية، حيث المفترض أن تلعب هذه المؤسسات دوراً مهما إلى جانب السلم الأهلي كما والسلم الإقليمي والدولي، لتقف سداً حاجزاً أمام أي حرب، لاسيما تلك الحرب التي تخدم سياسات بعض الساسة أو المؤسسات أو المجمعات أو «الكارتلات»، بغض النظر إن كان أولئك الساسة من الدكتاتوريين المستبدين أو ممَن يزعمون أنهم ديمقراطيون. وأوضح مثال على ذلك أن مؤسسات النظام الأميركي التي شاركت في اتخاذ قرار الحرب الاستباقية ضد أفغانستان ومن ثم العراق بحجة الحرب على الإرهاب، أثبتت أنها لا تقل وحشية وتخلفاً عن أي مؤسسة من مؤسسات الأنظمة الدكتاتورية أو الشموليّة السائدة في عالمنا المعاصر، والتي سبق أن اتخذت قرارات بالحرب أو الحروب داخلية كانت أو خارجية.

* * *

من مقبرة الأرقام الإسرائيلية في فلسطين المحتلة إلى مقابر الأرقام العربية؛ الحال واحد، وواحد هو الميت في الأفنية كلها؛ هنا أو هناك. متى يكون لأرقامنا قيمة، القيمة المضافة إلى ذواتنا كبشر؛ في نظرتنا نحن إلى ذواتنا لا في نظر «الساسة» ومقاوليهم. فإذا لم نصر على البقاء أحياء في مقابر الأرقام العربية، فقد نتحول إلى ضحايا ميتين في مقابر أرقام عربية أوسع. فهل نفرح لأن شهداءنا عادوا من رحلة أسرهم ووجودهم هناك كأرقام... مجرد أرقام، كي يستعيدوا أسماءهم هنا؟ في حين الأحياء هنا ما فتئوا مجرد أرقام في سجلات زنازين الاستبداد والأنظمة السلطوية؟ فإلى متى تستمر المهانة؟ مهانة حرية قتلنا بالسياسة وبغيرها، ومهانة قتلنا للسياسة... وللحرية؟

* كاتب فلسطيني

back to top