عيد الحجيلي في جوامع الكَمِد... شاعرٌ له ظلّه

نشر في 19-05-2009 | 00:00
آخر تحديث 19-05-2009 | 00:00
No Image Caption
إذا كان الشّعر الحديث المتنازل عن عناء همّ القوافي والموسيقى في جملته يشكو التشابه وعدم القدرة على التميّز الشخصيّ بالأسلوب، فإن القصيدة الكلاسيكيّة أو الملتزمة بشكل من الأشكال بالتفعيلة والتقفية هي في مأزق أيضًا يُختصر بقلّة المواهب الشعريّة وعجز الكثيرين من شعرائها عن أن تكون لهم شخصيّة شعريّة مستقلّة يثبتها النصّ وحده، لا صفحات البخور في الصحف ولا أصحاب التبطيل والترميز الذين يلفّون أكتاف أشباه الشعراء، أو مشتهي الشّعر، بعباءات فضفاضة من الصفات والألقاب.

يقدّم ديوان «جوامع الكَمِد» عيد الحجيلي شاعرًا ذا نفس مميّز، فهو شديد الميل الى الاختصار، يتجنّب الهدر اللغويّ ليسمح بحضور هدير اللغة في نصّه الشعريّ. ويعتمد على الإيحاء متجاهلاً التفسير المسيء إلى شعريّة الكلمة، من دون أن يلجأ إلى الطلسمة والرمزيّة المغلقة فنصّ الحجيليّ مشغول على وضوحه ويترك للقارئ متعة فتح أشرعة الخيال.

في «بديئة» ديوان يقول الشاعر: «قل: آمنتُ بالشّعر / ثمّ / اقتربْ». وهذا الكلام موجّه «إلى قارئ مُفْتَرض». وحقيقة الأمر، أنّه يدعو المؤمنين بالشّعر إلى التنزّه الجميل في حدائق عصافيرها وأزهارها موسيقى وقوافٍ تحتضن زبد المعاني الطالعة من رحم الحبّ والحزن والالتزام والتّوق إلى الجمال.

مملكة الحزن

منذ البداية يعلن الشاعر انتماءه إلى مملكة الحزن الذي يؤسس لولادة لغويّة شاعرة، {ويعنقد في دفاترنا غوايات الكلام»، وهو السيّد والمعلّم ومحراب الرؤى، ويعظُم ليصير الأكبر والأكثر جلالاً «قل هو الحزن المَدَد / ما له كفئاً أحد». إلى هذا الحدّ يقبل الحجيلي على الحزن ويجعله وشمًا على قصائده وماءً لمفرداتها، وإذا كان الحزن أبًا شرعيًّا للقصيدة وبينه وبينها قرابة دم، فهو كلّما صار الى اتساع تقلّصت دائرة الكلام واختُصرت جغرافيا الوطن الحميمة: «كلّما اتسع الحزن ضاق الكلام / وضاق البلد». في باب «أسباب المثول» وهو الأوّل في الديوان، يظهر الشاعر موجوع أمَّة، يعلن حزنًا مشتركًا مع آخرين، ويحاول قراءة أحوال الطقس التي لا تعنيه وحده إنّما ترخي بظلالها على شعب معيّن يقصده الحجيلي بكلامه، وإن لم يسمِّه، وربما تحاشى التسمية ليجعل النصّ أكثر شموليّة وقدرة على البقاء. أمّة الشاعر تفترسها الفجيعة والنكبة: «ورياح الغبن تشتدّ / وتجتثّ المرائي / ونبوءات النشيد»، فالخيبة حصدت حصّة العين من المشهد وعطّلت نبوءة الأناشيد التي تعد بحلم ما يحقّقه الغد قريبًا كان أو بعيدًا، والغد لا يحمل الى منتظريه زهرة رجاء إذ اجتاحت العتمة الرؤى والأفق أسيرُ «ستار من حديد». يغمز الحجيلي من قناة النضال السياسيّ وذلك في قصيدة «مناضل»، فالمناضلون الملتزمون بالقضايا السياسيّة والإنسانيّة النبيلة سقطوا في منتصف الطريق بإرادتهم، واستغلّوا ضباب الأفق والضجيج ومنهم من «عبَّ خمر اليمين بكأس اليسار»، وهكذا تنتهي القضيّة بنقل البارودة من كتف إلى أخرى لأجل غرض سياسيّ ليس أبعد من الكراسي والمناصب. وماذا يبقى للمقهورين في أمّة اصطادت شبكة التخاذل مناضليها وناسها الواعدين سوى الإقامة «تحت سماء الحروف» وفي المجاز حيث لا تصل يد الخيبة ولا يمسّ نَصَبُ الجوع أحدًا: «ولكم في المجاز حياهْ».

في قصيدة «احتلال» يحشد الحجيلي قاموس الحرب مسخّرًا إيّاه في تصوير الكلام السياسيّ لسياسييّ العرب أكثر فتكًا بالناس من القتل بعينه: غاز الوصايا ـ قصف الجواب ـ الخطب اللاهبهْ ـ اقتحام الفضاء ـ القاذفات المغيرات ـ الأماثيل والحِكَم الناسفهْ ـ رصاص الحكايا المخدِّر ... وبعد هذا الإرهاب الخطابيّ ينهض المرء «يتفقّد أشلاء أحلامه / ويخيط صقيع الحُطام / بجمرة أنشودة واجفهْ».

«مناسك الشَّبَه» عنوان الباب الثاني من الديوان، وفيه مساحة واسعة مخصّصة لحضور المرأة. يقول الحجيلي في قصيدة «عادة»: «كلّما أينعت رعشةٌ في شفاهك / حان قطافي». فهو المقطوف بدل أن يكون القاطف، ويده تؤسَر بدل أن تأسر، ورعشة شفتَي أنثاه تصطاده قبل أن يحضّر صنّارته ويختار على أيّ صخرة سيقف في بحر الأنوثة الواسع. و{ألِف الحب فاتحةٌ» في قصيدة «صفحة» تمدّ البساط طويلاً لطليق الغناء وهي الصفحة التي تحتضن عنفوان العناوين وبها «يزهو المداد / ترفّ الحروف». المرأة والقصيدة عند الحجيلي العاشق لا تنفصلان والحبّ طريقه إلى الجملة الشاعرة. المرأة في «جوامع الكمد» تحضر بجسدها الذي يحرق له الحجيلي بخور شعره، ويتفاعل معه برقّيّ، ولا يخشى أن يعلن في حضرته وأمام «طفلة الفرح المشتهى» أنّه إنسان طاعن في الحزن: «إنّ حزنيَ شيخ عهيد / عريق النّسبْ»، ولا يداوى الحزن العريق إلا بجسد يعصف فيه الاشتياق وصخب العمر «وثبتْ مثل عصفورة من حرير / وزوبعة من حَبَب / غلّقت فمه»... نساء الحجيلي في االقصائد لا تنقصهنّ الشجاعة. هنّ نساء كاملات، يقصدن الرجل بكلّ ما فيهنّ من روح وجسد. يطارد الشاعر إحداهنّ في المرآة «هبّ في عقر مرآتها الجمرُ / فدنت / وتدلت / على صدر عاشقها / طوّقته / فكان العريش». هكذا تنسحب المرأة من المرآة بما أوتِيَتْ من جمر وعناقيد وتصنع من العناق الدالية التي هي أمّ الخمر، وفي هذا الكلام ارتقاء بلقاء المرأة إلى النشوة المضاهية عصير العناقيد في الجرار.

بوح

أمّا في «مساوف» عنوان الباب الثالث من «جوامع الكمد»، فيعود الحجيلي إلى ذاته الحزينة: «كلّما وُلدت فكرة / وأدتْها العبارة». مشكلة الحجيلي مع اللغة والبوح كبيرة، يسعى الى التعبير عن ألمه الوجوديّ كإنسان، غير أنّه يعلن عجز اللغة عن إيصال ما يريد، فاللغة لا تُحسن تبنّي وجعه، والفكرة تموت بعد أن تُدفن حيّة عند دخولها قفص الكلام. واللعنة تطارده كظلّه لمجرّد أنّه «رافض»، ورفضه يعني أنه يضرم النار في كلّ ما يريد، لكنّه في الوقت نفسه «ثاوٍ في الحريق». ويبلغ ألم الحجيلي ذروته قائلاً: «كلّ شيء عشته / إلا الحياهْ». فالشاعر قصد الحياة بنفسها، وجهد ليكون متّحدًا بها من خلال نهاراته ولياليه، واكتشف عند أحد مفترقات العمر الخائب أنّه عاش خارج الحياة وما مرّ به لم يكن أكثر من سراب. وتبدو قصيدة «الحلاّج» أكثر مدى في التعبير عن الشاعر لما فيها من رمزيّة موفّقة وسلاسة شعريّة: «أمضيت جلّ العمر / في صمت، فما التفتوا / ولا سجدوا إليّ». في ألم الحجيلي كثير من ألم الأنبياء، الذين قتلهم بريق عيونهم، فرأوا ما قصّر عن رؤيته الآخرون ودفعوا ثمن النّظر كآبة تمتدّ جذورها عميقة في تربة الروح. وقصيدة الديوان الأخيرة «قبل أن تتنزّل من ملكوت الخيال / قصيدته المرتجاهْ».

لعيد الحجيلي في جوامع كمده ظلّ يشبهه ويقول إنّ الشّعر بخير ولا يزال في شجرة الشّعر ثمر كثير لمن وهبه الله نعمة القصيدة. 

back to top