تطور العلاقات الإيرانية - التركية وانعكاساتها على المنطقة 1 - 3
تكتسب العلاقات الإيرانية-التركية أهمية مضاعفة لدى دوائر المختصين والباحثين وصناع القرار فى منطقتنا العربية، بسبب أن كلا من إيران وتركيا يكون بالاشتراك مع مجموعة الدول العربية ما يسمى بمنطقة «الشرق الأوسط». وتحيط جغرافيا إيران وتركيا بالجغرافيا العربية من الشرق والشمال، فتتداخلان معها بوشائج التاريخ وروابط الحضارة المشتركة، على نحو قلما تتوافر في مناطق جغرافية أخرى. ويضاف إلى تلك الأسباب المهمة سبب إضافي هو أن إيران وتركيا ليستا دولتين اعتياديتين في الجوار الجغرافي للدول العربية، بل هما قوتان إقليميتان في الشرق الأوسط، يتجاوز حضورهما الإقليمي الحدود السياسية لكليهما. ولكل هذه الأسباب تتجاوز العلاقات الإيرانية–التركية فى أبعادها السياسية والاستراتيجية معاني أي علاقات ثنائية بين بلدين غير عربيين، إذ إن طبيعتها الخاصة تجعلها تؤثر مباشرة في واقع منطقة الشرق الأوسط. ولئن أمكن -نظرياً و«ستاتيكياً»- اعتبار إيران وتركيا عمقاً حضارياً وجغرافياً للدول العربية، إلا أن هذا الاعتبار لا يجد ترجمته أوتوماتيكياً على أرض الواقع، إلا من خلال سياسات عربية فاعلة تستخرج من طاقات إيران وتركيا ما يفيد المصالح العربية وتحيّد ما قد يطرأ من تناقض في المصالح بينها وبين أي من إيران أو تركيا. ولكن في حالات الغياب العربي عن الحضور والفعل، يكون طبيعياً أن تتمدد الأدوار الإقليمية لكل من طهران وأنقرة لملء الفراغات، وهذا التمدد بدوره يضع الدول العربية في بؤرة الاهتمام الإيرانى والتركي. تأسيساً على ذلك تعتبر الأقطار العربية محدداً ثابتاً في معادلة العلاقات الثنائية بين إيران وتركيا، باعتبارها ترمومتراً لقياس درجات التمدد الإقليمي لهما.شهدت العلاقات الإيرانية-التركية فترات مد وجزر تعاقبت في اتصال لم ينقطع منذ مئات السنين، وكأن معطيات الجغرافيا قد أبت إلا أن تكون ناظماً لوتائر من الشد والجذب، طغت على العلاقات الإيرانية-التركية منذ ما يزيد على خمسمئة عام. ومثلما كانت الجغرافيا حاضرة في مسار تطور هذه العلاقات، فقد كان التاريخ شاهداً على الصراع بين المشروعين الصفوي الإيراني من جهة، والعثماني التركي من جهة أخرى، إذ مثل الشاه عباس الصفوي ذروة المشروع الأول والسلطان مراد الثالث قمة المشروع الثاني. ولتجذير التناقض بين المشروعين ولتثبيت هوية معادية للسلطنة العثمانية، فقد عمد السلطان إسماعيل الصفوي إلى إعلان تشيع إيران لتدعيم قدراتها الصراعية مع تركيا بالروافد المذهبية. وكان أن اتخذت العلاقات بين البلدين أشكالاً دراماتيكية حين قامت الحروب المتعاقبة بين الدولتين في القرون اللاحقة، وأبرمت المعاهدات لتثبيت حدود البلدين واعتراف كل منهما بالآخر حامياً لأحد المذاهب الإسلامية (إيران للشيعة والسلطنة العثمانية للسنة)، وهو الأمر الذي تم تثبيته في معاهدات بين البلدين مثل معاهدة زهاب الموقعة عام 1639. ومن يومها أصبح هناك بعد عقائدي للصراع على النفوذ في المنطقة بين الدولة الإيرانية الشيعية والدولة العثمانية السنية ومن بعدها وريثتها الجمهورية التركية. وفى هذا السياق لا يفوت أن «المسألة الكردية» ظهرت على إثر خسارة إيران للأناضول في معركة تشالديران أمام السلطنة العثمانية عام 1514، لأن الأكراد أصبحوا من يومها مشتتين على دول المنطقة بعد أن كانوا منضوين جغرافياً تحت عباءة الدولة الإيرانية. ظهرت بواكير منطقة الشرق الأوسط الحالي ابتداء من العقد الثالث للقرن العشرين، فالإمبراطورية العثمانية قد اختفت من الوجود وحلت محلها الجمهورية التركية، وانتقلت مقاليد الحكم في إيران من يد الأسرة القاجارية إلى يد رضا شاه الجندي والضابط وقائد الجيش لاحقاً. أما في الدول العربية فقد عبثت اتفاقية سايكس-بيكو بملامح جغرافيتها بشكل حاسم وصلاً وقضماً، وضماً وقطعاً، ومثال تشكيل حدود دول المشرق العربي حاضر وناجز، إلا أنها في الوقت ذاته دشنت الدول الوطنية العربية لأول مرة في تاريخ المنطقة. يبدو الصراع على النفوذ بالشرق الأوسط والرغبة في التمدد الإقليمي قدراً مستمراً للعلاقات الإيرانية-التركية، على الرغم من بعض الفترات التاريخية التي شهدت العلاقات فيها تقارباً بين البلدين، ولكن دون أن يرقى هذا التقارب إلى مستوى التحالف بين البلدين الجارين. ومثال ذلك التقارب العلاقات الدافئة التي ربطت بين شاه إيران الأسبق رضا شاه ومؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال آتاتورك في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، إذ مثلت الجمهورية التركية وقتها «النموذج العصري» أمام إيران الراغبة في التحديث تحت حكم رضا شاه. وبوتائر مختلفة استمرت العلاقات دافئة من وقت الشاه السابق محمد رضا حتى قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وإن ميزها انضواء البلدين تحت مظلة التحالفات الأميركية ومواجهة الاتحاد السوفييتي السابق. وكان ظهور الأحلاف العسكرية في الخمسينات من القرن الماضي مؤشراً جديداً على تقارب إيران وتركيا تحت السقف الدولي اللتين بنتا سياساتهما الإقليمية تحته وعلى قياسه، وبالمقابل من الأحلاف العسكرية ظهرت فكرة عدم الانحياز بقيادة ثلاثية ضمت الجمهورية العربية المتحدة والهند ويوغوسلافيا؛ مما أدى إلى ترسيخ صورة جديدة للمنطقة يقوم الفرز الإقليمي فيها على أساس التحالفات الدولية. وهكذا وبعد ظهور الدولة الوطنية في البلاد العربية وقيام الجمهورية التركية ومحاولات تحديث إيران تحت الحكم الملكي، بدا الفرز واضحاً في المنطقة بين تحالف قادته الولايات المتحدة الأميركية انضوت فيه كل من إيران وتركيا وبعض الدول العربية، وآخر تحالف مع الاتحاد السوفييتي السابق وضم باقي الدول العربية. ساعتها تم تدشين شرق أوسط جديد بأبعاد وتوازنات مختلفة جذرياً عما ساد قبل سايكس-بيكو وما بعدها، إذ إن ثنائية النظام الدولي انعكست استقطاباً ثنائياً إقليمياً في المنطقة، ولكن هذا الاستقطاب الثنائي في الواجهة لم يستطع أن يحجب ظهور ثلاثة أطراف إقليمية أساسية على خلفية هذا الاستقطاب هي: العرب والأتراك والإيرانيون. تغيرت الأوزان النسبية في منطقة الشرق الأوسط من جديد بعد انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، من جراء تصادم النظام الإيراني الجديد مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، وتأسيساً على ذلك التصادم فقد عادت العلاقات الإيرانية-التركية إلى سابق عهدها من فتور وتصارع. وجاء الانقلاب العسكري في تركيا بكنعان إفرين رئيساً للجمهورية التركية عام 1980 ليزيد من حدة الاستقطاب في العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين. * كاتب وباحث مصري