القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية (5-5) ثلاث أمم أو أربع: النجاة لمن؟

نشر في 20-11-2008
آخر تحديث 20-11-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح والخلاصة أن لدينا ثلاثة مفاهيم متنافسة للأمة. المفهوم الذي يصدر عنه الشيخ القرضاوي، وهو إسلامي سني (نحن «الفرقة الناجية»)؛ والمفهوم الذي يصدر عنه الأساتذة البشري وأبو المجد وهويدي، وهو إسلامي عام أو «أممي» (كل الفرق الإسلامية ناجية)؛ والمفهوم القومي العربي (كل الملل ناجية، إسلامية وغير إسلامية؛ وإن يكن التطبيق المصري، الناصري، أظهر نزوعا إسلاميا وهمش الأقباط نسبيا، بينما كان التطبيق الشامي أقل تمركزا حول الإسلام، وأتاح اندماج المسيحيين والجماعات المذهبية المتفرعة عن الجذع الإسلامي كالعلويين والإسماعيليين والدروز... لكنه أقصى الأكراد المسلمين بالطبع). وقد نلاحظ ضربا من التكتم عند الشيخ وعند خصومه الأساتذة على البعد العربي لـ«الأمة». الشيخ لأن شرعيته مستمدة من تصور أمة إسلامية متعالية على القوميات بل معادية لها، والأساتذة ربما لأنهم لا يريدون إثارة حفيظة إيران.

ورغم أن المفهوم القومي العربي للأمة كان منفتحا على عصره وساعيا إلى الانخراط والمشاركة فيه، فإنه غريب مثل المفهومين الآخرين عن مفهوم الدولة الوطنية الحديثة. ومثلهما أيضا كان يجنح إلى تعريف تطلعاته بالسلب، أو بما صرنا نسميه اليوم الممانعة. ولعله من هذا الباب فضل الكلام كثيرا على المعركة التي ينبغي ألا يعلو على صوتها صوت، فضلها على معارك أدنى جلبة مثل الإصلاح الديني والثقافي والتعليمي، فضلا عن السياسي، كان من شأنها أن تصنع من كل فرد أمة، أي مواطنا. والمواطنة أساس مفهوم للأمة لم يجد من يدافع عنه في سجال الشيخ والأساتذة. هو أيضا المفهوم الذي يحيل إلى أرض ودولة وشعب وإلى كياناتنا الملموسة التي نولد ونعيش ونسجن ونموت فيها: مصر وقطر وإيران... ولبنان والعراق والبحرين والسعودية، والمغرب وإندونيسيا. وخلافا لما قد يتصور الشيخ ومساجليه فإن الكلام عن أمة مصرية أو قطرية مثلا هو عمل بالغ الطموح وليس تنازلا عن مطمح يفترض أنه يتجسد في «الأمة الإسلامية» وحدها، أو أقله في «الأمة العربية». فعدا أنه المشروع الذي يسنده الواقع (مصر وقطر موجودتان، لا نمزق كيانا أوسع لإيجادهما)، فإنه المشروع الذي ينصب الحواجز الأمتن في وجه الطائفية المهددة بتفجر بلداننا. هذا فضلا عن أن أمة جامعة تنكر شخصية مصر، أو حتى قطر...، سوف تثير من كل بد مشاعر استقلالية معادية لها عند المصريين الذين يتعاطفون بيسر مع قضايا تتجاوز بلدهم طالما استقلال بلدهم وكيانه محفوظان. إلى ذلك فإن كسب مصر لا يقتضي حتما خسارة الإطار العربي الذي نرى أن من المرغوب أن يبقى إطارا للتماهي الثقافي والتعاون الاستراتيجي والاقتصادي، لكن بين دول مستقلة. بعبارة أخرى، ثمة نوع من تقسيم العمل بين دولنا الراهنة التي هي وحدها أساس المواطنة والمشاركة والمساواة السياسية والحقوقية، وبين العروبة كإطار لثقافة جامعة ولتعاون اقتصادي واستراتيجي ممكن ومرغوب.

أما الأمة الإسلامية، أو الأمة دون تخصيص، فهي قفز فوق الواقع وهروب إلى الأمام من فشل الحاضر. وهي في أحسن حالاتها إحلال لمشاعر القرابة أو الأخوة الروحية محل التضامنات والإجماعات السياسية التي لا تقوم على غيرها الدولة الوطنية الحديثة. أما في أسوأها فهي صنف من المخدرات التي تهدر حياة أفراد ومجموعات وأجيال وراء طوبى ماضوية وهمية يقتضي تحققها عنفا مهولا، ولن تتحقق رغم ذلك. ولو افترضنا أنها تحققت بمعجزة ما فستتكشف دون تأخير عن كونها كابوسا يجمع بين الطغيان والطائفية. فالطغيان هو دوما وليد الطوبى واصطدام مثالها المجرد بالواقع الحي المتنوع. والطائفية، أعني التوظيف السياسي للتمايزات المذهبية، ستغدو وسيلة مقاومة لهذا الكيان الغريب الذي ربما سيشبه الاتحاد السوفييتي من وراء اختلاف وتعارض الإيديولوجيات. وفوق الطائفية والطغيان، سنجدنا دون ريب في مواجهة عداوات بين شعوب «الأمة» وإثنياتها، ونزعات استقلالية متشددة ستبحث من كل بد عن حلفاء لها في الخارج غير الإسلامي. بدلا من هذا المشروع الأخرق والعدمي، علينا بالأحرى أنسنة دولنا الراهنة التي يضعف الطغيان من التماهي العام بها وتهددها الطائفية من كل جانب. لقد أظهر السجال الذي فجره الشيخ القرضاوي أن الإسلام ليس حاجزا أمام الطائفية. ومثال نظام صدام في العراق أثبت أيضا أن العروبة البعثية ليست حلا للطائفية أيضا. وليس توزيع مجتمعاتنا إلى مجتمعات سنية وأخرى شيعية غير استسلام أمام الطائفية، وتسليم ضمني للشرعية فيها لرجال الدين حصرا. ما يمكن أن ينصب حواجز صلبة في وجه الطائفية هو التوظيف المادي والمعنوي في دولنا القائمة التي تشترك في الهشاشة والعنف وتغريب سكانها. والتوظيف هذا أيضا ما يوافق التحول من تفكير مشوش، هوامي، مثالي فلسفيا ورومانسي تاريخيا، إلى تفكير واقعي ومنضبط، يصلح وحده أساسا لعقلنة دولنا وسياساتنا من جهة، ولقيام علم سياسي تراكمي ومثمر من جهة ثانية. وهذا ما من شانه أن يضعنا خارج منطق الفرق والنجاة، والمنطق الخلاصي عموما، ويقربنا بالمقابل من منطق المواطنة، أو المساواة بين الناس، في الدنيا وفي الدولة، فيما وراء تمايزاتهم المذهبية والدينية والجنسية والإثنية.

* كاتب سوري

back to top