الصحافة التي تطمح أن تحل محل السياسة

نشر في 13-05-2009
آخر تحديث 13-05-2009 | 00:00
 بلال خبيز حلت الكويت أولى الدول العربية في مجال الحريات الصحافية. في الصحف الكويتية، تماماً مثلما هي الحال في أي بلد آخر، ثمة الكثير من الغث والقليل من السمين، لكن هذا شأن الصحافة أينما كانت وحيثما ازدهرت.

لزمن خلا، كانت بيروت تحتكر تاج الحريات الصحافية، لكنها قعدت عن السباق، بل إن الصحافة في بيروت اليوم تعيش طوراً من أطوار إحلال الشائعة محل الخبر، أي وبكلام آخر، ارتدادا عن تقاليد إعلام الحداثات، نحو اتباع تقليد يرقى إلى ما قبل العصر الذي أصبحت فيه الشعوب محركة التاريخ. خبر بيروت ينحدر نحو الشائعة، فالاتهامات المتبادلة بين السياسيين ليست أقل من الخيانة العظمى، والصحافة تنشر الأخبار الملفقة عمداً وعن سابق تصور وتصميم، والحصيلة، صحافة في بيروت تتحول عن وظيفتها وصحافيون، أو ما تبقى منهم على وجه الدقة، يعانون شح المصادر وانتشار الشائعات.

ليس ثمة قانون يجبر الصحافة على نشر الأخبار الدقيقة، ما لم تتعرض الصحافة إلى أحد الأشخاص المعنويين أو الفعليين بالقدح والذم، والحال، يمكن لصحيفة ما أن تنسب إلى صحيفة أجنبية، أو مصادر غفلة مطلعة القول والتأكيد أن حرباً كبيرة ستحصل بعد أيام، وليس في وسع أحد أن يحاسبها على عدم حصول الحرب. لكن الصحافة في أصلها ومعناها نشأت على ادعاء هتك الأسرار العامة، أي إشاعة الاهتمام بالشؤون العامة بين الناس، بعدما كان الاهتمام بالشؤون العامة مقتصراً على النبلاء وحاشية الملك فضلاً عن الملك والملكة والعشاق والعشيقات.

ومعنى إشاعة الاهتمام بالشأن العام ومحاولة توسيع دائرة المهتمين والمؤثرين فيه، أن تلتزم الصحافة الدقة في أخبارها، والعمق في تحليلاتها وتوقعاتها، أما حين تحل الشائعة محل الخبر، والتسريبات التي تسربها أجهزة المخابرات محل التحليل، فلا يعني أقل من أن الصحافة تقامر على جلدها نفسه، إن لم تكن قد باعته أصلا.

بعض المفكرين الصحافيين يعتبر أن الصحافة مرآة المجتمع، وهي مرآة المجتمع ليس بمعنى ما تكشفه وما تضمره، بل بمعنى مدى قدرتها على استشعار المزاج العام، والتماهي معه.

فحين يكون الرأي العام في بلد ما ممتلئاً بتاريخه، ومرتاحاً لحاضره وواثقاً ملء الثقة بمستقبله، فإن الصحافة تنحو بهذا المعنى إلى محاولة تأبيد الوضع الراهن، وإعطائه سمات الديمومة، أما حين يكون القلق هو سيد الموقف، والبلد المعني يعاين العواصف من حوله ويستشعر الأخطار التي تحف به من كل جانب، فإن الصحافة تعكس هذا القلق على نحو جلي، حيث يصبح التحليل أكثر حذراً، ويطلب بل يصبح التحقق من صحة الخبر ودقته مطلباً ملحاحاً، وتوسع الصحف دائرة معارفها وكتابها ومراسليها، وفي الأزمات الكبرى يعود السياسيون الكبار وصانعو القرار صحافيين، لفترة ما على الأقل.

على هذا يمكن مراقبة أحوال بلد ما من خلال الوظائف التي يشغلها في العادة كتّاب أعمدة الصحف، فلا يكتب هنري كيسنجر مثلاً إلا في الملمات، ولا يجد جيمس بايكر نفسه مضطراً للكتابة في الواشنطن بوست إلا حين يكون مصير أميركا على المحك. أما في الأحوال العادية والسائرة، فتكتفي الصحف بكتّاب أعمدتها ومحلليها، وتتقصى الأخبار بالروتين نفسه الذي تتقصاه كل يوم.

في بيروت، ليس ثمة أشيع من تصرف السياسيين كما لو أنهم صحافيون، ثمة رؤساء حكومات سابقون ولاحقون يكتبون في الصحف، أما على الشاشات فلا يمر يوم من دون أن يستضاف أكثر من سياسي أو زعيم، وهذا في حد ذاته يوضح معنى الحال التي وصلت إليها الصحافة اللبنانية، فلبنان يعيش دائما في الملمات، لكن صحافته بخلاف ما يفترض أن يكون عليه دورها، تتعيش على الشائعات. ذلك أن الصحافة في لبنان اليوم تبدو كما لو أنها تريد الحلول محل السياسة. أو كما لو أن السلطة الرابعة تريد أن تكون سلطة أولى، فلا يندر أن تجد سياسيين في لبنان يجتهدون في حساباتهم وتحليلاتهم، فيما الصحافيون يستسهلون إطلاق المواقف والتصرف كما لو أنهم رجال سياسة.

أن تحل الكويت أولى في حرية الصحافة، أمر يحسب لحكومة الكويت ودولتها ورجال سياستها من دون شك، لكنه أيضا مما يحسب لأهل صحافتها الذين مازالوا يتصرفون وفق ما تمليه عليه وظيفتهم. إذ يجدر بالصحافي أن يبقى صحافياً مثلما يجدر بالسياسي أن يبقى سياسياً، والحق أن السياسي حين يتحول صحافياً لفترة موقتة، فإنما يكون كمن يخضع نفسه لمحاسبة الرأي العام، لكن الصحافي الذي يريد أن يكون سياسياً يقدر نفسه أكثر مما يجب، وهو حين يحرف الصحافة عن وظيفتها يحتقر الرأي العام نفسه، وهو مرجعه ومن يفترض أن يحاسبه على أخطائه أو خطيئاته.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top