أسـفار

نشر في 20-03-2009
آخر تحديث 20-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان السفر أحد أهم أبواب المعرفة لأنه ارتحال في الأمكنة والأزمنة والثقافات، وهو سياحة ونزهة وقطعة من المعاناة والعذاب أيضاً، والسفر اكتشاف وولع بالمجهول والجديد، بفضله أعاد المكتشفون والمغامرون والرحالة رسم ملامح وخرائط القارات والبحار والبلدان، والسفر احتفاء بالآخر البعيد وسعي إلى التواصل معه والاحتماء به والاندماج فيه أحياناً، وهو توق إلى المدهش والمثير والمختلف، وسبب ظهور أدب الرحلات في أدبنا والأدب العالمي.

وقد كان السفر في الماضي البعيد حقاً أصيلاً للجميع، الأفراد والجماعات والقبائل، بحثاً عن الماء والمرعى، وهرباً من الأخطار والأعداء، ومن ثم بدّل السفر والهجرات الكبرى ملامح الكثير من الدول، ودمر بعضها وأسس دولاً جديدة، وأدى إلى اختلاط الأعراق واللغات والأديان في الدولة الواحدة.

ولأن السفر أحد محاور الوجود شُغل به الشعراء والكتّاب والفلاسفة والمتصوفون ورجال الدين الذين زينوا للناس اللجوء إليه، واتخاذه وسيلة لتجديد حياتهم وأحلامهم، وللفرار من واقع راكد وقامع، فالإمام الشافعي رضي الله عنه يقول في إحدى قصائده:

«سافر تجد عوضاً عما تفارقهُ وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النْصَبِ

إنى رأيت وقوف الماء يفسدهُ إن سال طاب وإن لم يَجر لم يطبِ».

ومحيي الدين بن عربي حضّ الناس على السفر بعبارته الشهيرة «المكان إذا لم يكن مكانة لا يُعول عليه». أي لا يستحق التشبث به والبقاء فيه، وفي شِعرنا القديم كان الشعراء يستهلون قصائدهم بالحديث عن السفر وعناء الرحلة ووصف الصحراء والناقة والبكاء على الأطلال قبل الخلوص إلى المديح أو الفخر أو الرثاء، فقد كان السفر باباً للرزق والشهرة والصعود الإبداعي، وكان البقاء في مكان ما والالتصاق به لا يعني سوى الحبس والزهد وخمول الذكر.

وباستثناء رهين المحبسين أبي العلاء المعري لن نجد مبدعاً أو شاعراً لم يكن السفر محور حياته، فالكتاب كان خير جليس للمتنبي، وسرج حصانه أعز مكان لديه، أي التجول والارتحال والسفر الدائم في الأمكنة والأزمنة والثقافات. والسفر بكل أشكاله يعني الانتقال من واقع إلى واقع مغاير بكل الوسائل، منها بالإضافة إلى القطارات والطائرات، الخيال والتذكر والتأمل وأحلام التقدم والانفلات من أسر التخلف وخرافاته:

«لم يبق إلا نحن والماضي

مر القطار والمسافرون غادروا

والسيد المذيعُ لم يزل يُحصي

مآثر العقيد ِ

أو يقول للأولاد... لم تزل جـِمالنا جَميلة ً

وأرضنا أميرة الأراضي».

وفي الشعر الحديث ألقى السفر بظلاله على معظم الشعراء الذين ولدوا وترعرعوا في القرى، ثم سافروا في صباهم إلى المدن فالعواصم العربية والأجنبية لكي تتلون قصائدهم بمعاناة السفر والاغتراب، نذكر منهم صلاح عبد الصبور، وأدونيس، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، ففي باريس يستعيد أحمد عبدالمعطي حجازي خرائط وملامح أسفاره من قريته إلى القاهرة، ثم إلى باريس في قصيدته «طللية» قائلاً:

«هذا دخان القرى مازال يتبعنا

وملء أحلامنا زرعٌ وأجنحة

وصبيةٌ وطريق في الحقول إلى الموتى

وصبّارُ

فملتقى الأرض بالأفق الذي اشتعلتْ

ألوانه شفقاً

فالقاطرات التي غابت مُوَلوِلةً في بؤرة الضوءِ

فالحزن التي هطلت عليّ أمطارُهُ يوماً

فصرت إلى طيرٍ

وسافرت من حزن الصبيّ إلى حزن الرجالِ

فكل العُمر ِأسفارُ».

ويحدثنا سعدي يوسف عن سفر الهارب المتخفي في قاع سفينة شحن، بحثاً عن ملاذ وأفق أوسع للحرية، بينما يحلم محمود درويش بالسفر والسير على الغيوم، لكي يرى ما لا يُرى قائلاً في كتابه الأخير «أثر الفراشة»:

«يمشي على الغيوم في أحلامه ويرى

ما لا يُرى... ويظن الغيم يابسة

عالٍ هو الجبلُ

أعلى وأبعد... لا شيء يُذكرهُ

باللا مكان فيمشي في هواجسه

يمشي... ولا يصلُ».

من الطفولة إلى الكهولة يسافر الإنسان، ويسافر أيضاً في سريره وفوق مقعده عندما يتأمل ويتخيل ويقرأ ويتذكر، فكل العمر أسفار كما قال حجازي في قصيدته، لكن بعض الشعراء والمبدعين يفضل البقاء في مكانه والالتصاق به مُفضلاً على الطائرات والبواخر سفراً آخر متصلاً ومن نوع مختلف:

«هل تحتفي كالريح بالرحيل بين ساخنٍ وباردٍ؟

أم تكتفي بغرفةٍ وغفوةٍ وزورقٍ من الورقْ

وباقتحام غابةٍ حدودها المجهولُ والمنسيّ والنائي

وباصطياد البرقْ؟

لا أعشق السفرْ

ولم أزُر كالسندباد منزل الجنيّ أو مدينة الذهب

ولم أفُزْ كالريح بالجائزة الكبرى

ولم أصر للطائرات صاحباً ولا لموج البحرْ

هل تستطيع أن تلومَني

لأننى أحب أن أظل هكذا كالنيل

جالساً هنا

وحارساً مكاني؟».

* كاتب وشاعر مصري

back to top