عمران التدين والمواطنة 1-3

نشر في 11-06-2008
آخر تحديث 11-06-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي لفتت نظري عندما بدأت رحلتي الأولى من الأقصر إلى القاهرة، علاقة العمران بالتدين‏، فهي فكرة سيطرت على عقلي سنين طوالاً، أتأمل فيها علاقة المصريين بهويتهم، وهي علاقة قوية إذا ما قورنت بإحساسهم بالمواطنة‏.‏ فلا يفوت المرء وهو مسافر بالقطار متجهاً نحو الشمال ونحو صرة الحكم، أن الديني والدنيوي يمثلان خطين متوازيين لا يلتقيان إلا في القاهرة، وهنا يقف المرء مشدوهاً أمام معادلة ثلاثية هي: علاقة العمران بالتدين وعلاقتهما معاً بسدة الحكم في العاصمة، وأثر هذه العلاقات المركبة والمتداخلة على المواطنة.

وكانت أولى العلامات ترتبط بالصيغة التصاعدية لأهمية المحافظات الإدارية من حيث تكثيف عدد السكان‏‏ والاقتصاد‏،‏ وكذلك الطقوس الاجتماعية والروحية‏،‏ وفكرت ملياً في مسألة تخطيط المدن وتراتبها‏،‏ وكذلك المخيال السياسي والاجتماعي الناتج عنها‏.‏

عندما سافرت إلى القاهرة لأول مرة، من قريتي الواقعة غرب الأقصر قاصداً «مصر»، كما تُسمى القاهرة، وكأننا هنا لا نعيش في مصر؛ فمصر تعني القاهرة، أما مَن نحن ولمَن ننتمي؟ لم أكن أدري! كنت كسائر الناس، غارقاً في تفاصيل عالمي.

وحينما تشرع في السفر من الأقصر، لابد من إدراك أنك قادم من بلد سيدي أبو الحجاج، صاحب المقام الذي يقف على الجنوب الشرقي من معبد الأقصر، حيث مشهد يقام لسيدي أبو الحجاج في قلب الأقصر وفي قلب المعبد، وتلك هي صورة عالم الصعيد جملة ولأهل الأقصر خصوصاً؛ ثنائية الضريح والمعبد، شرق النيل وغربه، الدنيوي والمقدس. فقريتنا تقع في غرب النيل عالم غروب الشمس (عالم الرقاد والموت)، بينما المدينة ذاتها تقع في عالم شروق الشمس (عالم الحياة)، يفصل النيل بين عالم الحياة وعالم الموت، عالم السكك الحديد وعالم التنمية.

كنا نحيا في غرب النيل حياة أقرب إلى السُبات، فمازالت محاريث أرضنا تجرها عجول الجواميس والبقر كما كان الحال في عصر الفراعنة. ومازلنا ندفن موتانا بطريقة أشبه إلى طريقة أجدادنا القدامى، ونضع في أكفهم القطع الفضية لدفع أجرة المركب لعبور النيل، وندفن الأجنة غير المكتملة في آنية من الفخار نضعها تحت عتبة الباب، ولا ندفنها في المدافن، ولنا في ذلك أسبابنا، وتطوف النساء الراغبات في الحمل أو في إنجاب الذكور بمقام سيدي أبو الحجاج تارة أو بالمعبد تارة أخرى، يختلط الفرعوني معتقداً مع الإسلامي ممارسةً، وربما هذا لا يخص مسلمي الأقصر فقط، لكنه ينطبق على مسيحييها أيضا. الإسلامي عندنا مختلط بالفرعوني إلى درجة تدهش مَن تعلم منا وسافر بعيداً.

وهناك أيضا تداخل على مستوى الزمان بين الفرعوني والإسلامي، فإلى يومنا هذا مازالت في الليلة الختامية لمولد سيدي أبو الحجاج، (التي أعتقد أنها ستفاجئ المصري القادم من الشمال بالدرجة نفسها التي ستفاجئ الألماني السائح أو الهولندي)، تُحمل المراكب الشراعية على سيارة نقل من معبد الكرنك في شمال الأقصر (معبد الإله آمون رع) إلى معبد الأقصر جنوباً حيث ضريح أبو الحجاج، ذات الطقوس التي كانت تقام للإله آمون رع عندما كان كهنة المعبد يحملون المراكب عبر طريق الكباش متجهين جنوباً... وكانت تسمى مراكب الشمس، أي المراكب التي تأخذك إلى الإله رع، والذي يرمز إليه قرص الشمس. مراكب لعبور نهر النيل الفاصل الجغرافي والذهني المتخيل بين العالمين.

وبالعودة إلى طواف النساء الراغبات في الحمل حول مقام أبو الحجاج، نتبين أن هناك علاقة ثلاثية مثيرة للاهتمام، فالمرأة تهمس بين خشب الضريح، تدعو الله وتتوسل بالولي كي يمنحها الله البنين، وما عليها بعد ذلك إلا الانتظار، فإذا جاء الولد فتلك هبة من الله وكرامة للولي، لا دخل للعبد فيها. مقابل هذه العلاقة الثلاثية المكونة من العبد، والولي كواسطة، والإله المانح الوهاب، هناك علاقة المواطن، وعضو مجلس الشعب كواسطة ثم الحكومة التي تمنح وتمنع. هناك مقام الشيخ وقبة الضريح ومقام الحكومة المركزية في القاهرة وقبة مجلس الشعب. هذا الثليث كان معنا منذ البدء، وهو يشكل وعينا اليوم، وسأفصله في المقالات التالية... فإلى لقاء.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top