الصراع على القوقاز

نشر في 05-11-2008 | 00:00
آخر تحديث 05-11-2008 | 00:00
 د. حمزة سعد فجرت حرب القوقاز أزمة واسعة النطاق بين روسيا والولايات المتحدة، تطايرت شظاياها بعيدا خارج حدود آسيا وأوروبا، وأصابت مباشرة النظام العالمي القائم. التدهور الحاد في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة هو في الواقع سبب للحرب لا نتيجة لها، فبعد الانحسار الذي أصاب النفوذ الروسي التقليدي عن الساحة السوفييتية السابقة أمام الانتشار القوي للنفوذ الأميركي فيها مع نجاح الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا، وتحت شعار تصدير الديمقراطية وبكل الوسائل، أصبحت البيئة مهيأة لاحتدام الصراع اليوم بين روسيا والولايات المتحدة انطلاقا من سعي الطرف الأول، بعد استفاقته من الغيبوبة التاريخية، لإعادة بسط سيطرته، في حين يجهد الثاني للتخلص نهائيا، إن أمكن، من منافسه القوي.

الأزمة الجورجية أجبرت الطرفين اليوم على الوقوف وجها لوجه، بالرغم من أننا كنا قد شهدنا سابقا وضعا مماثلا مع انطلاقة الثورة البرتقالية في أوكرانيا، فإنه نظرا لاختلاف الظروف والعوامل الداخلية المؤثرة على مسار الأحداث، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي لها، الذي جعل منها مركزاً لنقل الطاقة من آسيا الوسطى وروسيا إلى أوروبا، ناهيك عن اعتمادها بشكل أساسي على الطاقة الروسية، ما سمح لروسيا بأن تمسك بيدها العديد من أسباب التأثير على مجرى الأحداث في أوكرانيا دون اللجوء إلى القوة، وبالتالي دون تصعيد الموقف إلى حد التصادم كما حصل مع جورجيا.

الوضع في القوقاز مختلف، فالحرب عليه بدأت بين الطرفين في العام 1999 مع حملة القائد الشيشاني شاميل باسييف على داغستان، ففي حينه تعاطت روسيا-بوتين بشدة وحزم لوقف الاعتداء الذي كلفها أفدح الخسائر. وبالمقابل تطلب الأمر من الولايات المتحدة العمل لسنوات وبإمكانات عالية لتنشئة وتربية قائد آخر (ساكاشفيلي) يقدم على إرسال جيشه لإشعال حرب مع روسيا.

بالنسبة إلى المشروع الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، فإن جورجيا التي كرّت منها سبحة الثورات الملونة المعادية لروسيا، تمثل فيه المنفذ الذي تطل عبره ليس فقط على جنوب القوقاز بل على مجمل الساحة السوفييتية السابقة، وهي أيضا «الخط الأمامي للحرب مع روسيا» وفقا لما جاء على لسان الرئيس الجورجي.

الحرب على المنطقة الممتدة من البحر الأسود إلى بحر قزوين نظرا لأهميتها في مجال إنتاج وتصدير ونقل الطاقة، ومن أجل بسط نفوذها من آسيا الوسطى حتى منغوليا، فالسيطرة على هذا الممر لا تسمح فقط بالسيطرة على دول محور الشر إيران، وكوريا الشمالية، لا بل أبعد من ذلك، روسيا والصين، أما بالنسبة إلى روسيا، فالوضع في جورجيا مختلف انطلاقا من عدم امتلاكها أيا من عوامل الضغط للتأثير على مجريات الأمور في جورجيا سوى القوة العسكرية.

و تعتبر أن الحرب في الأقاليم الانفصالية عن جورجيا بدأت منذ ستة أشهر، مع إعلان استقلال كوسوفو، الذي لم تستطع موسكو إزاءه أن تفعل شيئا سوى التحذير من تداعياته، خصوصا في القوقاز، والملف الإيراني، وتجد في إعادة انتخاب الرئيس ساكاشفيلي لولاية ثانية تصعيداً ويمثل خطوة متقدمة في إطار المؤامرة التي تهدد نفوذها التقليدي في القوقاز، كما ترى في التقدم الأطلسي نحو حدودها إشعالا للحرب، خصوصا بعد قمة بوخارست التي جمعت الناتو وروسيا، وحيث حال دون ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى برنامج العضوية في الناتو، ليس الخطاب التصعيدي لبوتين، بقدر ما هو التناقض داخل دول الحلف وعدم انصياع ألمانيا وفرنسا في حينه للرغبة الأميركية.

من هنا ولطالما أن هذه المسألة لم تبت نهائيا وهي موضوعة على جدول أعمال القمة المقبلة للحلف أواخر العام الحالي، فإن روسيا لا تستطيع الاطمئنان والاستمرار في رهانها على الخلافات الداخلية لدول الحلف، فلم يعد أمامها إلا أخذ المبادرة من خلال استغلال الهجوم الجورجي على أوسيتيا الجنوبية لتوجيه ضربة قاضية للأحلام التوسعية الأطلسية شرقا.

في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى العامل الأوروبي في الصراع الدائر حول منطقة القوقاز خصوصا البحر الأسود، فمنذ العام الماضي أصبح للاتحاد منفذ كبير على البحر الأسود بعد انضمام بلغاريا ورومانيا إليه. والاتحاد الأوروبي اليوم قلق حيال البؤر المتوترة الأخرى على شاطئ البحر الأسود من شبه جزيرة القرم إلى مولدافيا. وقلق أكثر بسبب رفض روسيا سحب قواتها المسلحة من بردنوستروفيا الموجودة فيها منذ العام 1990.

في النهاية إن حرب القوقاز أيقظت روسيا من غيبوبتها التاريخية، ولا بد للغرب أن يتعامل بواقعية مع الوضع الجديد، بحيث لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تقرر مصير العالم وحدها دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح لاعبين كبار آخرين بحجم روسيا، التي أعلنت نفسها، وبصوت عال، دولة عظمى لن تتهاون بعد الآن مع ما يهدد سلامتها وأمنها، ولو أدى ذلك إلى خوض الحروب الوقائية، ولا تخشى نتيجة لذلك على نفسها من العزلة والمقاطعة بقدر ما تخشى على الآخرين منها.

back to top