ملاحظات حول المجتمعات الغربية

نشر في 18-08-2008
آخر تحديث 18-08-2008 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي يمكن إذا نظرنا إلى مجمل المشهد المجتمعي في الغرب أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعتري علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها، جوهرها إما اختلال عقد اجتماعي توازن واستقر بمراحل سابقة، وإما استمرار لغيابه في ظل صراعات تعصف بأسس العيش المشترك.

ديمقراطيات أميركا الشمالية وأوروبا، وبعد حقبة طويلة استقر بها عقد دولة الرفاه الاجتماعي وجمعت بصياغات مختلفة بين مكونات ثلاثة، هي التزام اقتصاد السوق، وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية، تعاني اختلالات عميقة الأثر تمس دور الدولة وحدود مسؤولياتها والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والمواطنين. فقد أخذت الهوة الفاصلة بين مداخيل الشريحة العليا من أغنياء الولايات المتحدة وحظوظ بقية السكان من الثروة في الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية، وتغير النظم الضريبية لتصل اليوم إلى معدلات غير مسبوقة.

فوفقاً لإحصائيات عامي 2005 و2006، يستحوذ ما لا يزيد على 10 في المئة من الأميركيين على أكثر من 70 في المئة من ثروة المجتمع، تاركين ما يقل عن الثلث لأغلبية ساحقة (90 في المئة) من الفقراء ومحدودي ومتوسطي الدخل. هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات، وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة 30 في المئة، عن راديكالية التحولات المجتمعية التي تشهدها الولايات المتحدة في ظل تراجع دور الدولة وانحسار مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية. بيد أن الدولة المتراجعة أخلّت كذلك مع إداراتي بوش الابن المتعاقبتين 2000- 2008 بتعهدها الدستوري بحماية الحريات المدنية والسياسية والتزامها مبدأي حكم القانون والرقابة بين السلطات، على ما دللت فضائح بوش المتعاقبة بدءاً من غوانتنامو والسجون السرية، مروراً بممارسات التعذيب والتنصت غير المشروع على المواطنين وانتهاء بالتضليل المنظم للسلطات التشريعية والقضائية. والنتيجة الحتمية هي أزمة مجتمعية خانقة، يعمق -بكل تأكيد- من تداعياتها شبح الكساد الاقتصادي وانهيار سوق العقار وارتفاع كلفة المغامرة العراقية، ذهبت بثقة أغلبية الأميركيين بمؤسسات الدولة وبالنخبة السياسية وأعطت زخماً لدعوات التغيير الرامية إلى تجديد العقد الاجتماعي وإعادة التوازن إلى أدوار الدولة، ومن ثم إلى جوهر علاقتها بالمجتمع والمواطنين.

كذلك يكاد تطور مجتمعات غرب أوروبا أن يتماهى مع الخبرة الأميركية، وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق، والتي دشنتها أوروبياً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (1979- 1990)، اتسع نطاقها تدريجياً ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتعاقبت على تطبيقها حكومات يمين ويسار رفعت شعار المنافسة في زمن العولمة، وزجت بمجتمعاتها إلى أتون تحولات اقتصادية واجتماعية أخلَّت بتوازنها، وحالت جزئياً بين الدول ونخبها وشرعية القبول الشعبي.

خلال العقدين الماضيين، وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة، ارتفعت معدلات تركز الثروة بمعظم الحالات الأوروبية على نحو عمَّق الفوارق الطبقية، وقلَّص من المساحة التي تشغلها الشرائح متوسطة الدخل بالخريطة المجتمعية وجعل من الفقر ظاهرة متنامية. فعلى سبيل المثال تراجعت نسبة الطبقة الوسطى إلى إجمالي السكان بألمانيا من 62 في المئة عام 2000 إلى 54 في المئة عام 2006، وتجاوزت نسبة المهددين بالفقر 12 في المئة، بل بلغت الأخيرة في بريطانيا 17 في المئة، وفي إيطاليا 18 في المئة. ومع أن نخب السياسة بأوروبا، وعلى نقيض الخبرة الأميركية، لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهري في الحريات المدنية والسياسية، فإنها أضحت هي الأخرى تعاني أزمة شرعية تسهم في تكريسها إما فضائح فساد متتالية، أو تحالفات عضوية بين السياسة والمال، أو غياب شبه تام للاختلافات الفعلية (أي البرامجية) بين قوى اليمين واليسار، يرتب عزوف المواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم فيمن يمارسها. وما التنامي اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف في التحليل الأخير إلا تعبير عن الاختلال المستمر في العقد الاجتماعي الناظم لعلاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين، وعجز الأوروبيين عن صياغة لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقياً.

إن كانت هذه هي وضعية الديمقراطيات الغنية بالغرب، وبها جميعاً استقر الفهم الحداثي للدولة وللمواطنة المدنية الجامعة المتجاوزة للولاءات الأولية ولحدودها الفاصلة، فما بالنا بالحالات الأوتوقراطية التي ما لبثت تدار بها ترابطات الدولة والمجتمع والمواطنين على نحو سلطوي يجرد أي حديث عن عقد اجتماعي طوعي من المضمون والمصداقية، أو بتلك التي لم يتبلور فيها بعد فهم حداثي للدولة يفصل بينها وبين فسيفساء الولاءات الأولية المكونة للمجتمع ويؤسس للتعاطي الحيادي معها؟

* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» - واشنطن

back to top