إعلان دمشق وأزمة المعارضة السورية 3 - 5

نشر في 21-08-2008
آخر تحديث 21-08-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح * إجماع استقطابي

نعود إلى القول إن «إعلان دمشق» حظي بإجماع نسبي واسع لأنه ولد في لحظة صانعة للإجماع. وهذا لا يعني أنه لم يواجه بانتقادات وتحفظات. لقد كان من سمات الإعلان أن تواقت صدوره مع زوبعة انتقادات واتهامات وشتائم غير مسبوقة، لا يضاهيها إلا اتساع الانشداد نحوه وإعلان الانتساب إليه. وما كان للإعلان أن يواجه بعاصفة من التشنيع والاتهامات لولا أنه بدا فعلا سياسيا مؤسسا، لا يستطيع المرء في الشرط السوري العياني إلا أن يكون ضده، إن لم يكن معه. وكان الانتساب الواسع إليه ومبادرة مؤيديه إلى تسجيل أسمائهم في مواقع إلكترونية برهاناً على خصوصية تلك اللحظة المشحونة وجاذبيتها النادرة. لقد أدرك المنتسبون إلى الإعلان، قوى وأفرادا، أنه الإطار الحاسم للعمل الوطني إلى حد أن التحق به من لن تكف تحفظاتهم عليه عن الاتساع بالتناسب مع انقضاء اللحظة الصانعة التي استمرت شهوراً فحسب. أيضا إلى حد أن المرء لا يعدو الإنصاف ان قال إن أخصام «إعلان دمشق» وقت صدروه هم أخصام لمعظم تاريخ المعارضة السورية، ولمفهوم المعارضة ذاته في الأغلب.

ومن حيث المبدأ، قد يمكن تفسير دوافع المنجذبين إلى الإعلان بواحد من أمرين؛ إما الرغبة في الحلول محل النظام وتلهف متلهفين إلى حجز موقع في ترتيبات وأوضاع جديدة محتملة للبلد؛ وإما الحرص على وجود قوى منظمة فاعلة يمكنها أن تحد من آثار التداعي المحتمل وتحاول توجيه سير الأحداث نحو مسارات موافقة للمصلحة الوطنية، أو في اتجاه أقل ضررا للبلاد. الأرجح أن العاملين معا تدخلا. واللافت أن خصوم الإعلان، بمن فيهم من كانوا فيه حين كانت قضيته صاعدة، فضلوا التفسير الأول، وأسندوه إلى «رهان على الخارج» يفترض أن يكون الإعلان تأسس أصلا عليه، لكن «الرهان» هذا أقرب إلى إسقاط لاحق بغرض تسويغ انحيازات مستجدة منه إلى واقع الحال. يبرهن على ذلك أن أحدا من غير المصطفين صراحة إلى جانب النظام لم يتكلم عليه قبل عام 2007.

ولا شك عندي أن تحفز أكثرية ناشطي الإعلان وكل المجموعات الديناميكية التي اشتغلت على وثيقته طوال أشهر، كان أرفع الدوافع الوطنية. وكان الحال العراقي ينبسط أمام أعينهم، وكانت الرغبة في التغيير تتلاطم في صدورهم مع الخشية من انزلاق البلاد في مسار عراقي منفلت تتعذر السيطرة عليه. وكانت الفكرة الموجهة إلى أكثرهم تتمثل في أنه كلما توافرت للبلاد قوى منظمة وعقلانية أوسع، كانت الفرصة أكبر لتجنب أسوأ العقابيل (الشدائد) المحتملة لتغيير لا نملك رده. ولطالما عبر رياض سيف، رئيس الأمانة العامة لائتلاف إعلان دمشق والمعتقل منذ 7 أشهر، عن هذا التوجه بالقول إن الغرض توفير «شبكة أمان» للبلد تفادياً للأسوأ. وقد كرر الكلام نفسه في جلسة محاكمة معتقلي الإعلان في 30/7/2008.

وعلى أي حال، لا يشذ «إعلان دمشق» عن أي حركات تغييرية أو وطنية في أي مكان في أن الإجماع يقترن دوما بالاستقطاب، أو أن كل إجماع سياسي هو إجماع استقطابي، وهو ما تظاهر بحالتنا في غياب تام للمواقف البينية، فمن لم ينضموا إلى الإعلان هاجموه، ولم يبق أحد على الحياد.

وقد تعطي مبادرة تقدم بها رياض الترك بعد أسابيع قليلة من صدور «إعلان دمشق» فكرة عن المناخات النفسية التي صدر بها الإعلان وعن دوافعه في آن معا. اقترح الترك أن يستقيل رئيس الجمهورية ويحل محله مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وأن يتولى الجيش ضبط الأمن في البلاد، وأن تتعاون الحكومة مع التحقيق الدولي في اغتيال الحريري... ما كان لمثل هذه المبادرة أن تصدر عن معارض متمرس لولا شعور منتشر بأن البلاد مقبلة على تغير قد ينفلت من سيطرة الجميع (كان الإعلان تكلم على «مهمة تغيير إنقاذية»، كما سلفت الإشارة). وما كان لها أن تصدر أيضا لولا رغبة في «تغيير آمن»، يضمن استمرارية مؤسسية ويجنب البلاد فراغاً سياسياً وأمنياً قد يحمل مخاطر جمة.

الغرض من هذه التذكيرات، مرة أخرى، إعطاء فكرة عن فرادة لحظة صدور «إعلان دمشق» وتفسير ما حظي به من جاذبية. لقد شكل مساحة التقاء راغبين في تجنيب بلدهم المخاطر أمام منعطف خطر، كما مثل محور استقطاب أساسي في الحياة السياسة السورية، فباء بإدانة ونقمة غير مسبوقين. وإنما لذلك لم يسبق أن تعرض ناشطون سوريون للتخوين الصريح أو نصف الصريح بأشد مما تعرض «إعلان دمشق».

* كاتب سوري

back to top