باكستان إذ ترتجف
تتصاعد الضغوط المكثفة على باكستان بحيث تبدو اليوم في أكبر أزمة تواجهها منذ تأسيسها، ويشدد تحول حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم بالتوازي مع ضغط الهند ومن خلفها الولايات المتحدة، الخناق على إسلام آباد.تمضي المواجهة الهندية-الباكستانية في وتيرة متصاعدة منذ تفجيرات مومباي التي وقعت نهاية العام الماضي وحتى اللحظة، وهي التفجيرات التي انتقصت كثيراً من هيبة الدولة الهندية في محيطها الجغرافي. وقتها اتهمت الهند المخابرات الباكستانية بالتخطيط لهذه الهجمات وأخذت تدرس احتمالات الرد المعقدة، نظراً لامتلاك كل من الهند وباكستان لقدرات نووية، وهو ما يفرض سلوكاً معيناً على المتصارعين. ويعني ذلك أن احتمالات الحرب العسكرية بين الطرفين أصبحت ضئيلة جداً، لأن كل طرف يعرف جيداً مقدرة الآخر على القيام بضربة ثانية. وبالرغم من انتفاء إمكانات المواجهة العسكرية فعلياً بين الطرفين، فقد كان محتماً أن تقوم الهند برد للحفاظ على هيبتها أمام جارتها اللدود. وسبق أن قلنا هنا التالي: «يبدو الطريق ممهداً أمام عمل انتقامي هندي ضد باكستان رداً على هجمات مومباي، سيكون سقفه الأعلى أقل من هجوم نووي مع مراعاة عدم الاصطدام بالمصالح الأميركية، أما سقفه الأدنى فسيكون أكثر من مجرد تعويض الهيبة الهندية وتسديد ضربة موجعة إلى باكستان. في هذا الحيز الافتراضي الواقع بين السقفين سيكون الرد الهندي على هجمات مومباي، وبحيث تكون إمكانات الرد الباكستاني أو الضربة الثانية في حدودها الدنيا». (راجع مقالنا هنا في 25 ديسمبر 2008). وفي المقال نفسه توقعنا أيضاً أن الهند ستستهدف مبنى المخابرات الباكستانية «أي إس أي»، باعتبارها مسؤولة من المنظور الهندي عن هذه التفجيرات (راجع ذات المقال).وقع انفجار ضخم يوم الأربعاء الماضي في مبنى المخابرات الباكستانية في مدينة لاهور الباكستانية، قتل على أثره 23 شخصاً على الأقل وجرح 250 آخرون. وقالت الداخلية الباكستانية إن الهجوم له علاقة بمقاتلي «طالبان» باكستان، ولكن المتابع لتفاصيل الصراع بين أفيال شبه القارة الهندية سيعرف أن الهند أرسلت أخيراً رسالتها العنيفة إلى المخابرات الباكستانية عبر استهداف مبناها في لاهور. وتوخت الهند بالضبط، كما كتبنا هنا قبل شهور، أن يكون الرد موزوناً وعنيفاً في آنٍ، حتى لا تزيد من ورطة الحكومة الباكستانية، وبالتالي يرتد الوضع سلباً على الهند التي تخشى من وقوع القدرات النووية الباكستانية في يد الجماعات المتطرفة. من ناحيتها تخشى واشنطن من أن تقع الرؤوس النووية في أيدي «طالبان» أو جماعات متشددة أخرى، ولذلك فهي تريد من الحكومة الباكستانية أن تركز على حدودها مع أفغانستان لقمع حركة «طالبان» بشقيها الأفغاني والباكستاني، أما إسلام آباد فهي تركز تقليدياً على حدودها الشرقية مع الهند، جارها الأكبر والأقوى، والذي تستشعر تقليدياً وتاريخياً أن الخطر يأتي منه.قامت الدولة الباكستانية في عام 1947 على جزء من الهند التاريخية، حيث تقسمت شبه الجزيرة الهندية بين الهند وباكستان التي يضم اسمها الأعراق والمناطق المكونة لها (الباشتون والمهاجرين الهنود وإقليم كشمير وإقليم السند)، والاسم يعني في النهاية الأرض (ستان) الطاهرة (باك). ومع ولادة الدولة الباكستانية فقد ولدت معها المقارنة مع الهند، إذ ينقص باكستان هذا العمق الاستراتيجي الكبير الذي تمتلكه الهند، كما تنقصها الفعالية الاقتصادية وكفاءة النظام السياسي الهندي. ولذلك فقد توخى مؤسسو باكستان إسناد بلادهم واستقرار دولتهم على عمودين: الأول تمثل في أسلمة المجتمع الباكستاني بهدف تجذير التناقض مع الهند الهندوسية من ناحية، وربط الأعراق التي تكوِّن باكستان الحالية برباط وحدة الدين عوضاً عن وحدة القومية، من ناحية أخرى. ويمكِّن هذا العمود الديني باكستان من ربط وشائج العلاقات مع إقليم كشمير، المقسم بين الهند وباكستان، والجهاديين فيه لإشغال الحكومة الهندية ووضعها تحت الضغط قبل أن تفكر هي ذاتها في الضغط على باكستان. والطريقة نفسها تمت حياكتها مع حركة «طالبان» الباشتونية في أفغانستان، والتي خلقتها المخابرات الباكستانية من عدم الخواء الفكري والتنظيمي وساعدتها وموَّلتها لتتولى الحكم في أفغانستان من عام 1996 وحتى نهاية 2001. وتمثل العمود الثاني لإسناد الدولة الباكستانية في الترسانة النووية الباكستانية التي تمثل الرادع الأساسي في مواجهة الهند، وأداة الدفاع الناجعة في مواجهة هجوم محتمل، خصوصاً في ظل التفوق الهندي التقليدي عسكريا واقتصادياً وبشرياً. تخشى باكستان من تكثيف الضغوط عليها لنزع قدراتها النووية منها بحجة أنها يمكن أن تسقط في يد الإرهابيين، ولذلك فقد بادر رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني بتصريحات قبل أيام يؤكد فيها مناعة القدرات النووية الباكستانية وأنه لا يمكن اختراقها. وساهم في زيادة الأزمة الباكستانية أن جهاديي أفغانستان وكشمير، حلفاء الأمس، قد انقلبوا على باكستان بسبب تغليبها لاعتبارات التحالف مع واشنطن في «الحرب على الإرهاب». وهكذا فبدلاً من أن يصبحوا ذراع باكستان الطويلة لمقارعة الهند خارج الحدود، فقد ارتدوا سلباً إلى داخل الحدود مهددين تماسك الدولة الباكستانية ذاتها. ترتجف باكستان بفعل تفجيرات لاهور والتي يبدو على السطح أن منفذيها من المتطرفين الإسلاميين، في حين أن منطق وتاريخ الصراع الهندي-الباكستاني يقول إن هذه الهجمات ردٌ هندي على تفجيرات مومباي. وقلنا بوضوح في مقال آخر إن «الهدوء الحالي لا ينبغي أن يخدع المتابعين، إذ تفاضل الهند الآن بين خيارات الرد المتنوعة وتقيس تداعياتها، بينما الأمر الذي سيمنعها من القيام برد عسكري هو قيام باكستان بتنازل سياسي مهم لمصلحتها» (راجع مقالنا هنا في 18 ديسمبر 2008). تتصاعد الضغوط المكثفة على باكستان بحيث تبدو اليوم في أكبر أزمة تواجهها منذ تأسيسها. يشدد تحول حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم بالتوازي مع ضغط الهند ومن خلفها الولايات المتحدة، الخناق على إسلام آباد.ومازال الصراع الهندي-الباكستاني مفتوحاً على احتمالات متباينة، ولكن الخيط الأساسي الناظم للأحداث في الملعب الباكستاني يتمثل في أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية قد ضربت- فيما ضربت- استقرار ومكانة باكستان الدولية والإقليمية، وأن تداعياتها تظهر إلى السطح الآن في صورة أزمات مكتومة وعلنية وضغوط مكثفة.* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليميةوالاستراتيجية-القاهرة.