إشكاليّة المصطلح
تأليف: د. يوسف وغليسي الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون
يشكّل غياب أكاديمية عربية، تكون بمثابة مؤسسة شاملة وجامعة، فوضى لا حدّ لها على مستوى اللغة ليغدو الاستنساب الفردي سيّد الموقف، فكل ناشط في مجال البحث والنقد الأدبيين يواجه أزمة المصطلح ويجد نفسه أمام حائط مسدود، فيلجأ الى صناعة مصطلحه أو تبنّي مصطلح سبقه إليه أحدهم، وإذا كان بعض المصطلحات لاقى حيزاً معيناً للانتشار فلأنّ صاحبه ذو نفوذ أدبي معين استطاع بقدرته منفرداً أن يثبته من دون أن تكون هناك مرجعية معينة تلزم الآخرين به، لذلك نجد اللغة العربية في مشكلة كبيرة في مواجهة المصطلح، ليس لأنها غير قادرة على مواكبة الحياة الأدبية وتطوّرها إبداعاً ونقداً، إنما لغياب سلطة لغوية تتأطّر في مؤسسة باستطاعتها توليد المصطلحات وتعميمها وتكون على أهبة دائمة لمدّ اللغة بما هي في حاجة إليه من جديد المصطلح والمفردات...في مقدّمة «إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد»، يعلن المؤلف الدكتور يوسف وغليسي أهمية المصطلح ويعتبره للعلوم خلاصة، وللمعارف رحيقاً، ويعتبر «لغة الاصطلاح هي ملتقى الثقافات الإنسانية وعاصمة العواصم اللغوية المتباعدة»، وصولاً الى أن المصطلح يشكّل لغة العولمة بدرجة كبيرة. يقرّ وغليسي بأنّ المصطلح العربي لا يزال غير ثابت ولا اتفاق عليه وهو في جزء منه منقول عن الفرنسية أو الانكليزية مفتقراً الى أن يكون مثبتاً في مرجعيته الأولى. يُذكر أن جول ماروزو دقّ ناقوس الخطر في أربعينيات القرن الماضي استعداداً لمواجهة انفجار القضية الاصطلاحية وأعلن أن توحيد المصطلحات الألسنية ضرب من المستحيل، فما القول اليوم بعد التراكم الاصطلاحي السلبي وهجرة المصطلحات الدائمة من بيئة لغوية الى أخرى؟ بناء على ما تقدم، وجد المؤلف ضرورة ملحة لمؤلفه، ليعالج مسألة المصطلح من بداية سبعينيات القرن العشرين الى يومنا. لم يعثر وغليسي على بحوث تتطرق الى موضوع كتابه بشكل شافٍ باستثناء كتاب «المصطلح النقدي» لعبد السلام المسدي الذي فجّر «الإشكالية من بؤرها المركزية». يرمي المؤلف الى أن يُقرأ الخطاب النقدي بتفكيك جهازه الاصطلاحي، إذ إن بين المنهج والمصطلح ترابطاً ما يظهره عدد من الافتراضات.في الباب الأوّل من الكتاب، تطرّق الكاتب الى إشكالية المصطلح عارضاً ماهيّته ومعاييره وآليات الاصطلاح. المصطلح لغويّاً مصدر اصطلح، والاصطلاح بحسب الجرجاني «عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما يُنقَل عن موضعه الأوّل، وإخراج اللفظ من معنى لغويّ الى آخر لمناسبة بينهما»... تطوَّر علم المصطلح من ثلاثينيات القرن الماضي بشكل لافت مع المهندس النمساوي أوغين فوستر مؤسّس علم المصطلح المعاصر الذي تركَّز اهتمامه حول التوحيد الدولي للمصطلحات في مجال الهندسة الكهربائية. عند العرب، اضطلع بتطوير علم المصطلح عدد من مجامع اللغة العربية. من أهم وظائف المصطلح، الوظيفة اللسانية حيث تساهم في الكشف عن مدى عبقرية اللغة واتساع معجميتها، والوظيفة المعرفية ليغدو المصطلح لغة العلم والمعرفة، ولا بدّ من الإشارة هنا الى أن قدامى العرب سمّوا المصطلحات مفاتيح العلوم والوظيفة التواصلية، إذ إن اللغة الاصطلاحية نخبوية لا مبّرر لها لوضعها قيد الاستعمال مع عامة الناس الذين لا يملكون سبيلاً إليها.يقرّ وغليسي بأن وضع المصطلحات أمر في غاية الصعوبة ويتطلّب تمكنًا من المادة المعالجة ومعرفة واسعة في الفقه والتاريخ... في الترجمة لا بدّ من أن يكون المترجم مخضرم لغة، ولا يكتب للمصطلح طول الحياة، إلا إذا اتسعت دائرة الاتفاق عليه تمهيداً لانتشاره الواسع. للتوليد الاصطلاحي وسائل وآليات يبيحها فقه اللغة ومنها: الاشتقاق، الاستعارة (المجاز)، التعريب، النحت، التراث والوضع والترجمة.كذلك عالج وغليسي المصطلح النقدي الجديد وإشكالية الدلالة من خلال دراسة في الحقول المصطلحية، وعرض الحقل البنيوي والحقل الأسلوبي والحقل السيميائيّ والحقل التفكيكيّ. بنيويّاً، رأى جان بياجي أن البنيوية صعبة التمييز بسبب أشكالها المتعددة والمتجددة باستمرار، وهي تستمد روافدها من ألسنية دوسوسير وأنتروبولوجية ليفي شتروس ونفسانية بياجي وجاك لاكان وحفريات ميشال فوكو التاريخية وأدبيات رولان بارت... شكل سوسير الانطلاقة الأولى للمنهج البنيوي الذي اتخذ سياق الفكر الشكلاني في ما بعد.أسلوبياً، الأسلوبية هي علم الأسلوب أو تطبيق معارف الألسنية في دراسة الأسلوب، والأسلوب، مصطنع لغوي حديث نسبياً، ومن دلالاته الأخيرة كيفية الكتابة، عامة، وكيفية كتابة كاتب ما بشكل خاصّ. ميَّز بريان جيل بين ثلاث أسلوبيات: أسلوبية اللغة، أسلوبية المقارنة وأسلوبية الأدب...آثر العرب الاحتفاظ بالتقسيمات الأسلوبية الغربية. الامبراطورية العلاميةسيميائيّا، انطلق علم السيميائية مع نهايات القرن التاسع عشر على يد سوسير وشارلز سندرس بيرس، فاللغة أمست أنساقاً من العلامات تعبّر عن أفكار... وأمست «الامبراطوريَّة العلاميَّة» التي تطرح نفسها بصفتها علماً شمولياً ذا سلطة على غيره من العلوم ويمارس حكمه عليها بوصفها فيدراليات علميَّة على ارتباط بقوانينه الرئيسة.أمّا على المستوى التفكيكي، نشأت حركة معرفية جديدة أخذت في ما بعد اسم البنيوية. ما التفكيكية سوى تجلٍّ نقديّ لحركة فلسفية أتت على أيدي كثر ومنهم جاك ديريدا، جاك لا كان، جيل دولوز، ميشال فوكو وفيليكس غاطاري... ليست حركة «ما بعد البنيويَّة» التي برزت في أواسط ستينيات القرن العشرين سوى عملية مراجعة للبنيوية وتأمّل في خط نموّها وتطوّرها.في الباب الثالث من «إشكالية المصطلح»، ناقش وغليسي المصطلح النقدي الجديد وإشكاليات الحد الاصطلاحي مستغرقاً في دراسة حول بنية المصطلح. رأى أن المصطلح المشتق يأتي في منزلة سامية لا سيما في اللغة العربية، فالانشقاق من أهم وسائل التوليد اللغوي المستجيب لخصوصية اللغة. قد يُلجأ الى المصطلح المجازي من خلال اشتقاق شكل لغوي جديد من مادة معجمية موجودة سابقاً، أو من خلال إفراغ المادة اللغوية من محتواها الأصليّ لتكتسب دلالة مجازية جديدة. أما المصطلح المعرّب فهو الشر الذي لا بدّ منه حين لا بديل، وهو مظهر من مظاهر العولمة الثقافية في سياق تبادل اللغة والمعرفة. من الممكن اللجوء الى المصطلح المنحوت غير أنه الأقل اعتباراً لأنه على صلة واهية باللغة العربية، وقد ينفع اللغة بإثرائها بالمفردات ويسيء إليها بالإكثار من المفردات المبهمة فيها. طرح وغليسي في نهايات كتابه التعريب وإشكالية رسم الحروف، والمعيار اللغوي وإشكالية الاصطلاح اللغوي، والدلالة الاصطلاحية وإشكالية الصيغة الصرفية، وترجمة المصطلح وإشكالية السوابق واللواحق.لا شك في أن صاحب «إشكالية المصطلح» أتى بأبحاث علميَّة تحتاج إليها خزانة النقد العربي كثيراً غير أنّ عملاً فرديّاً على مستوى المصطلح لا يفي بالغرض ويبقى الحل الوحيد بتأسيس مجمع لغويّ عربيّ شامل يتصدّى لكل طارئ ويفرض المصطلح المكتوب له طول العمر.