النصابون الشرقيون!

نشر في 08-10-2008
آخر تحديث 08-10-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي ترى ما هي قيمتك كمواطن مصري، لو منّ الله عليك بشيء من النجاح مثلما حدث للعالم المصري-الأميركي الدكتور مصطفى السيد الذي قلده رئيس الولايات المتحدة أخيراً وساماً علمياً رفيعاً اعترافاً من المجتمع الأميركي بقيمة أبحاث الرجل العلمية المهمة في مجال «النانو تكنولوجي»؟ في الغرب قيمتك هي قيمة عطائك، مستمرة مدى الحياة وربما تخلدك في قائمة العلماء في ما بعد، أما في مصر فقيمتك تساوي تلك الدقائق الخمس التي تصبح فيها جزءاً من الديكور العام، ديكور الوطنية وحب مصر، الذي تتغنى به مجموعة «النصابين الشرقيين» المتاجرين بالوطنية، حملة الأختام السلطانية، وكذابي الزفة.

حضرت في السابق مؤتمر «النانو تكنولوجي» الذي عقده معهد بيكر في جامعة رايس منذ أعوام، لم يكن مؤتمرا علميا بقدر ما كان مؤتمرا سياسيا، تحدث فيه العلماء عن المجالات التطبيقية لمثل هذه الأبحاث المتقدمة، ومع ذلك أعترف بأن قدراتي العلمية لم تستوعب الموضوع برمته، لأنه مستوى آخر من الأبحاث ما بعد «الكوانتم ميكانكيكس»، وما بعد زويل أيضاً. النقطة هنا هي أن هذا مصري آخر، حقق بعرقه وجهده هو، لا بهتافات حملة المباخر عندنا، إنجازا بحصوله على جائزة رفيعة تسلمها من رئيس الولايات المتحدة، ثم عاد إلى معمله، لا صخب ولا ضجيج.

أعترف هنا، أننا كمصريين مغتربين، لا تكتمل فرحتنا بالنجاح إذا لم نتشاركها مع أهلنا، وأقولها صراحة إن معظم من هاجروا من مصر يحنون إلى مصر، ولا يشعرون بالنجاح مهما احتفل به في المهجر ما لم يشاركهم به أصدقاء الطفولة والعائلة ومصر... هكذا نحن المصريين. وهذا ربما ما حدث مع أحمد زويل، ولكن متى ما عاد واحد من هؤلاء العلماء إلى أرض الوطن، وجد نفسه جزءا من الديكور العام، لمدة خمس دقائق هي مدة الشهرة العابرة في مصر، ومتى ما دخل الديكور خرج منه مهترئا كأخشاب الأبلكاش التي تكتب عليها شعارات الحزب الوطني.

قيمة هذا العالم أو المواطن الفذ تكمن في اللحظات التي يكون فيها (منصوبا) ضمن لافتات الدعاية للحزب والوطن، ومتى ما انفض السامر وقضي الغرض المطلوب منه، أرجع إلى مآله الطبيعي وهو المخازن، حتى تأتي فرصة لاستخدامه مرة أخرى في الديكور العام أو استخدام غيره.

لذا أطلب من المتحفزين للاحتفال بجائزة الدكتور مصطفى السيد و«نصبه» ضمن اللافتات والشعارات الطنانة، بأن اتركوا الرجل في حاله يفرح بجائزته وسط أهله ومحبيه، ولا تجعلوه في زيارته لمصر، كما حدث لزويل، قطعة في الديكور العام. دعوه عالماً مستمتعاً بإنجازه ومنشغلا بإبداعه، وربما عندما يعود إلى مصر سيقضي وقتاً مع بعض الشباب يحفزهم على البحث أو يقدم لهم مِنَحاً للدراسة معه والمشاركة في أبحاثه، ليكون لدينا أكثر من مئة من أمثال الدكتور زويل والدكتور السيد، بدلا من تضييع وقت الرجل مع الوزير الفلاني والمسؤول العلاني. في الغرب لا ينبهر العلماء بمقابلة الوزراء، فمقابلاتهم ثقيلة على القلب، إلا إذا كان الأمر جزءاً من خدمة وطنية يقدمها العالم للوزير أو لمستشاريه في ما يخص مجال معرفته، أما مقابلة الوزير للتصوير والتباهي فهي أمور لا توجد إلا في الدول المتخلفة. الوزير موظف عام، ومقابلته من دون داع حقيقي تضييع لوقته ووقت من يقابله، وتلك علامات تخلف لا علامات تقدم. دعوا الرجل يلتقي بشباب الباحثين والأكاديميين ليستفيدوا من خبرته وتجربته. لنترك العشاءات والغداءات على شرف الرجل جانبا، ومعظمها كما نعرف هي في المقام الأول وسيلة للتباهي لمن دعا إلى العشاء، لا احتفالا بالعلم والعلماء.

مصر زاخرة بالعلماء والعقول النيرة، لكن لا يُحتفى بهم إلا عندما يحتاج إليهم كجزء من الديكور العام، مصر الرسمية ليست بلد العلماء والكادحين، إنها بلد «النصابين الشرقيين»، من أصحاب الهتافات وحملة المباخر. قيمتك عزيزي المواطن هي تلك الدقائق الخمس التي تصبح فيها جزءاً من الديكور، كأم مثالية، وكعالم في الخارج، وكسبّاح عالمي أو مصارع، أو حارس مرمى للفريق القومي أو لاعب محترف عند الإنكليز، تلك هي أهميتك، أما إذا خرجت عن النص كحالة الحارس عصام الحضري، أو كأي مصري آخر، «شلحوك» لباس الوطنية كما يتم «تشيلح» القس من مهماته الكهنوتية في الكنيسة، ورموك بالعمالة والخيانة، فقط لأنك لم تقبل أن تكون خرزة في مسبحة «النصابين الشرقيين».

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top