المحلل والمخلل

نشر في 09-01-2008
آخر تحديث 09-01-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي

ما نراه في إعلامنا العربي اليوم من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، هو اتساع في مساحات الجهل، وانتشار أوسع للأفكار القديمة ذاتها، مرة تأتي معلبة بغلاف إسلامي ومرة بغلاف قومي أو وطني، لكنها المقولات المعلبة ذاتها التي نفدت صلاحيتها.

عندما تشاهد قنوات الـ «بي بي سي» التلفزيونية، تحس كأن المذيع (أو المذيعة) غير موجود، مجرد شخص شفاف تمر من خلاله المعلومات. أما في تلفزيوناتنا العربية فتحس أن المذيع يقف حائلاً بينك وبين المعلومة. يفرد يديه كما جناحي طائر على الطاولة التي يستند إليها، ويغلظ صوته مرة ويهدجه مرات، يتمطط كثيراً، حتى لتظن أن هذه الأخبار من صنيعته. الأخبار هي الأخبار، معظمها مأخوذة من وكالات الأنباء العالمية مثل الوكالة الفرنسية «إيه إف بي» أو «رويترز» أو «إيه بي»، يقوم معدو البرامج بقص الصور ولصقها ثم يكتبون النص المصاحب، والموجودة مادته الأساسية مع ما تشتريه القناة التلفزيونية من الوكالات، فقط تضاف إليه البلاغيات والاستعارات والطباق والجناس العربي الذي يتناسب مع أجندة المحطة الإعلامية. إذن لماذا يتمطط المذيع وكأنه هو من صنع الخبر وصنع الكلام وربما صنع الحدث؟ يقرأ المذيع خبراً من بعقوبة في العراق، فترى أوداجه تنتفخ وتعلو نبرة صوته وترتسم ملامح (الجهاد) على طلعته البهية، وكأنه هو الذي فجر الحافلة، وكأنه (الشهيد) البار، وكأنه إلخ...إلخ.

هذا في ما يخص المذيع، أما ما يخص المحلل، أو المخلل، فتلك قصة طويلة. عندما ذهب العرب أخيراً إلى مؤتمر أنابوليس في ولاية ميرلاند الأميركية، سألت قناة «العربية» في واحدة من تقاريرها المصورة رجلاً فلسطينياً في الشارع عن رأيه في المؤتمر ونتائجه، قال بعفوية: «من ها الوكت (أي من الآن) أقول لكم إن المؤتمر فاشل.. فاشل.. فاشل». سمعت هذه العبارة التي تفوه بها شخص بسيط، وبعدها سمعت مئات التحليلات على القنوات العربية وفي الصحف، كلها تتلخص في تلك المقولة التي تفوه بها ذلك الرجل «من ها الوكت المؤتمر فاشل.. فاشل.. فاشل».

إذن، ما الجديد الذي يضيفه التوسع في الإعلام المكتوب والمرئي في العالم العربي، إذا كان رأي المثقف لا يختلف عن رأي أبسط بسطاء الشارع؟ ما نراه في إعلامنا العربي اليوم من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، هو اتساع في مساحات الجهل، وانتشار أوسع للأفكار القديمة ذاتها، مرة تأتي معلبة بغلاف إسلامي ومرة بغلاف قومي أو وطني، لكنها المقولات المعلبة ذاتها التي نفدت صلاحيتها.

السؤال الذي أتمنى أن يشاركني القارئ في الإجابة عنه هو: لماذا كل هذا التمطط في الإعلام العربي إذا كان لا يضيف شيئاً؟ لماذا لا يجرؤ العربي على الاختلاف؟ ولماذا يهاب المثقف العربي أن يقول أو يكتب شيئا لا يتفق مع ما يرغب الشارع في قراءته أو سماعه، مع أن دور المثقف الأساسي هو توعية الشارع لا مسايرته؟ كيف لكل هذه العناكب أن تعشش في رؤوس من استثمرنا في تعليمهم وأرسلناهم إلى كبريات الجامعات وكنا نطمح أن يأخذوا بيدنا. هل ليكتبوا الكلام ذاته، وليتفقوا مع رجل بسيط رأى أن مؤتمر أنابوليس فاشل من «ها الوكت»؟ شيء من الاختلاف، وكثير من الجرأة، وقليل من التمطط من فضلكم.

* كبير باحثين في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية

back to top