زيارة جديدة إلى اسطنبول 1من2: عثمانلي وطن داشيم!

نشر في 20-12-2007
آخر تحديث 20-12-2007 | 00:00
 د. مصطفى اللباد تقترب الطائرة من اسطنبول فتأخذك المدينة بروعتها من الأعالي وبالتمازج العبقري بين الخضرة وقباب المساجد والماء في خليط فريد يندر أن تراه في أي مكان في العالم، وعندما تحط بك الطائرة في المطار ينخلع قلبك - كما في كل مرة سابقة- لأنك تخال الطائرة هابطة في الماء بسبب القرب الشديد للمطار من مضيق البوسفور. لا يدهشك الازدحام في شوارع وطرقات المدينة، ولا الساعة التي تقطعها من المطار إلى حيث الفندق في وسط المدينة، فهذا أمر طبيعي في مدينة تحتضن 15 مليوناً من المواطنين، بقدر ما يستلفت انتباهك النظام والنظافة التي تضاهي أفضل المدن الأوروبية. ترتفع الأعلام التركية على جانبي الطريق وفوق الأبنية الرسمية والمصانع بلونها الأحمر الذي يتوسطه هلال ونجمة بيضاء. شيدت اسطنبول تاريخياً على شبه جزيرة فيها سبعة تلال ولها أطراف ثلاث هي: مرمرة والبوسفور والخليج، وهي مركز العالم منذ القرن الرابع الميلادي.

كانت اسطنبول عاصمة الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية لـ1600 سنة متتابعة، وتعاقب على حكمها 120 ملكاً وسلطاناً، وهيأ لها موقعها الجغرافي أن تربط بين قارتي آسيا وأفريقيا، فالجزء الأكبر من تركيا أي نحو 97.5 في المئة من مساحتها يقع في آسيا، في حين تقع النسبة الباقية في أوروبا، واسطنبول هي أكبر مدينة تركية معاصرة، وهي التي تربط بين آسيا وأفريقيا. ثلاث دول فقط في العالم هي التي تتوزع جغرافيتها على قارتين: روسيا تتوزع على آسيا وأوروبا، وتركيا كذلك ومصر التي تتوزع مساحتها على أفريقيا وآسيا التي توجد فيها شبه جزيرة سيناء.

كانت قسطنطينوبوليس مدينة مسيحية بيزنطية قبل أن يفتحها السلطان العثماني محمد، الذي ذهب في التاريخ باعتباره «محمد الفاتح» بسبب ضمة اسطنبول إلى إمبراطورية العثمانيين، استعمل السلطان محمد الفاتح لأول مرة في التاريخ المدافع ذات القطر الكبير عند فتحه للمدينة العريقة، في تطبيق عملي للعلاقة العضوية بين امتلاك ناصية العلوم والمعارف التقنية والنجاحات العسكرية والسياسية. وهكذا تغير اسم اسطنبول إلى الأستانة دار الخلافة العثمانية التي حكمت على مدار قرون أجزاء واسعة من أوروبا والعالم العربي، ومازال تقييم هذه الفترة متنازعاً عليه بين الشعوب التي حكمها العثمانيون، فمنهم من يرى ذلك احتلالاً، ومنهم من يراه التجلي الأرقى لحضارة الإسلام على صعيد التنظيمين السياسي والدولي. مازال التاريخ حاضراً في اسطنبول، ففي أحياء غلاطا سراي وبيوغلو عاش السكان المسيحيون ومازالوا حتى اليوم يمارسون وبحرية شعائرهم الدينية، في حين يشكل المسلمون منذ الفتح الإسلامي للمدينة الأغلبية الساحقة من السكان. التلال السبعة التي تأسست عليها اسطنبول محاطة بالغابات، أما السواحل التي تحاصر اسطنبول فهي مزينة بالقصور الجميلة وبعضها يعود إلى حكام مصر الخديويين والطبقة العليا المصرية آنذاك، فاسطنبول كانت هي المصيف المفضل لديهم في ذلك الزمن. يسكن ثلث المواطنين في الجانب الآسيوي من المدينة والجزء الآخر في الجانب الأوروبي منها، ويصل بين الطرفين جسر كبير ذهب رمزاً تاريخياً وسياسياً سنعود للحديث عنه لاحقاً، وتطل اسطنبول على أصغر بحر في العالم وهو بحر مرمرة الذي يربط البحر الأسود الواقع في شمال تركيا بمضيق البوسفور، ومنه إلى بحر إيجة الذي يفصل بينها وبين اليونان، ومن ثم أخيراً إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط.

تصل اسطنبول يوم الجمعة قبل الصلاة، فتنتهز الفرصة لأداء الصلاة في مسجد السلطان أحمد، الذي يطلق عليه أيضاً «المسجد الأزرق»، بسبب استعمال الزخارف ذات اللون الأزرق الذي يمتد إلى الزجاج المثبت على 260 نافذة تسمح بمرور الضوء إلى داخل المسجد، الذي يطغى على سجاده الفاخر اللون الأزرق. تستسيغ أذناك لُكْنةَ الخطيب التركي حين يتحدث بالعربية في خطبته عن فلسفة التضحية، فهي الجمعة الأخيرة قبل عيد الأضحى، وللمسجد ستة مآذن تحفظ له شكله المميز الذي ذهب رمزاً للمدينة العريقة، أما قطر القبة المركزية فيه فتبلغ مساحته 23 متراً تقريباً وطوله نحو 43 متراً. تأخذك النقوش المثبتة على القباب والأعمدة الداخلية، وتعلم لاحقاً أن ما يقارب 20 ألفاً من أمهر الصناع والنقاشين قاموا على مدار خمسة عشر عاماً بصناعتها. تتأمل المحراب المصنوع من المرمر الأبيض.

يقول الأتراك إن بناء المسجد بستة أعمدة حاكى لدى البعض هندسة المسجد الحرام، ولذلك فقد قام السلطان أحمد -المتمسك بإسلامه- بالمساعدة في إقامة مئذنة سابعة في المسجد الحرام. وعندما تخرج من المسجد بعد الصلاة تستقبلك رحابة الفناء الخارجي والأشجار المحيطة به، فتعيد الكيس البلاستيكي الذي وضعت نعليك فيه، حرصاً على طهارة ونظافة المسجد، إلى مكانه، وتستعيد الشعائر الجميلة وبصرك الذي تكحل باللون الأزرق، فتخرج من المسجد وأنت في حالة وجدانية أفضل مما كنت عليه قبلها. تستبشر خيراً بالمؤتمر الذي يبدأ في اليوم التالي، وهو مؤتمر «الحوار المصري-التركي: اسطنبول جسر بين حضارتين»، متمنياً أن تخرج منه أيضاً بأحسن مما دخلته.

لا تملك ترف أن تكون محايداً في اسطنبول، فالروابط التاريخية والوجدانية تظل حاضرة في خلفية المشهد، فأن تكون مواطناً مصرياً فهذا ينبع من كونك ولدت من أبوين مصريين، ولكن تقلبات التاريخ تترك آثارها أيضاً على وضعيتك القانونية وليس الوجدانية فحسب. والمثال على ذلك أن أبي عاش شاباً ليكون مواطنا في دولة الوحدة المصرية-السورية، أي في الجمهورية العربية المتحدة، أما جدي –رحمه الله- الذي ولد في نهايات القرن التاسع عشر كمواطن في مملكة مصرية تندرج –ولو شكلياً- في الدولة العلية العثمانية، فقد كان مواطناً عثمانياً أو كما يقول الإخوة الأتراك: (عثمانلي وطن داشيم). تقلب العصور السياسية والأشكال القانونية أمر طبيعي في منطقتنا، وأمر مفهوم أن تلعب الروابط الوجدانية والحضارية والتاريخية دوراً مؤازراً في التقريب بين العرب والأتراك عموماً، والمصريين والأتراك خصوصاً.

وعلى الناحية المقابلة تلحظ أن ملامح التاريخ والسياسة الدولية تغيرت بشكل جذري في الفترة الواقعة من انهيار السلطنة العثمانية عام 1923 وقيام الجمهورية التركية على أنقاضها حتى يومنا الراهن، بحيث أزيحت العوامل الوجدانية من صدارة المشهد الذي احتلته بامتياز المصالح الوطنية، باعتبارها المحك الذي ترسم عليه اتجاهات التحالفات الإقليمية والدولية. تذهب إلى النوم بعد يوم حافل في اسطنبول الجميلة والعريقة، وخاطرك منشغل بإشكالية التوفيق بين تلك العوامل والعناصر المتلاطمة.

* باحث وكاتب مصري

back to top