الحداثة الانتقائية

نشر في 02-03-2008
آخر تحديث 02-03-2008 | 00:00
الحداثة بالاختيار، مثلما هي الحال مع الصين وروسيا، ليست أكثر من مجرد وهم. ويبدو أن أنصار هذه الفكرة قد نسوا التجارب التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين، حين جربت كل من ألمانيا وروسيا تطبيق الحداثة بأساليب استبدادية، وكانت النتائج مأساوية.
 بروجيكت سنديكيت منذ قرنين من الزمان ساعدت الثورتان الأميركية والفرنسية في إبراز المفهوم القانوني الطبيعي الخاص بحقوق الإنسان الثابتة. إلا أن الأمر استغرق قرنين من الحروب، والكوارث السياسية والاجتماعية، ثم التحرر من الاستعمار، قبل أن تحظى هذه الفكرة بالقبول على مستوى العالم، أو على الأقل من حيث النظرية.

في البداية كانت فكرة حقوق الإنسان محصورة في السياسة الداخلية. أما على صعيد العلاقات الدولية فقد ظلت القوة، وليس الحق، تشكل القيمة الوحيدة الحقيقية: حيث كان المفهوم التقليدي لسيادة الدولة يركز بصورة شاملة على القوة، أو بعبارة أخرى فرض السيطرة على الناس والأرض، وحماية سلطة الدولة، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتم بأسلوب متحضر أو وحشي، ديموقراطي أو استبدادي.

كانت محاكمات نورمبيرغ لمجرمي الحرب الألمان بعد الحرب العالمية الثانية بمنزلة التغيير الأول المهم في فهم العالم لمفهوم السيادة. فللمرة الأولى خضعت قيادات دولة بالكامل للمحاكمة عن جرائمها.

كانت محاكمات نوريبيرغ، ثم في الوقت نفسه تأسيس الأمم المتحدة، وإعلانها العالمي لحقوق الإنسان، بمنزلة الإشارة إلى تعاظم أهمية القانون في إدارة العلاقات الدولية. ولم تعد السيادة تعتمد على القوة وحدها، بل لقد تزايد اعتمادها على القانون واحترام حقوق المواطنين.

تجمدت هذه العملية إلى حد كبير أثناء الحرب الباردة التي دامت خمسة عقود من الزمان. بيد أن أهمية حقوق الإنسان وحكم القانون عادت إلى البروز من جديد باعتبارها الموضوع الرئيسي للسياسة الغربية، وخصوصاً في أعقاب مؤتمر هلسنكي حول الأمن والتعاون الأوروبيين، ثم استخدامها من جانب رئيس الولايات المتحدة جيمي كارتر، علاوة على العديد من المنظمات غير الحكومية التي احتجت على المعاملة التي يلقاها المنشقون السوفييت.

وتجسدت الخطوة الثانية الكبرى في نشوء مفهوم التدخل لأسباب إنسانية بعد حملة التطهير العرقي التي شهدتها رواندا وحروب البلقان التي دارت أثناء تسعينيات القرن العشرين. ونتيجة لهذا، اعترف القانون الدولي بـِ«حق الحماية» ضد استبداد الحكومات وجرائم الدولة ضد شعبها، ولو أن مسألة فرض هذا الحق ظلت غير مؤكدة إلى حد كبير.

وأخيراً أدت التطورات نفسها في السياسة الدولية والقانون الدولي إلى إنشاء محكمة العدل الدولية. ومع إنشاء هذه المحكمة، نتيجة لخبرات طويلة ورهيبة، قطع المفهوم الأساسي للحداثة شوطاً طويلاً، والحداثة هنا تعني أن سلطة الدولة وحكامها لابد أن تكون خاضعة لحكم قانون أعلى، وبالتالي وضع حقوق الأفراد فوق سيادة الدولة.

لم يكن هذا التطور من قبيل المصادفة بأي حال من الأحوال. ففي مواجهة التحديات الشمولية الاستبدادية المتمثلة في الفاشية والشيوعية أثناء القرن العشرين، أدركت أوروبا والولايات المتحدة أن حكم القانون، والفصل بين السلطات، والديموقراطية من العوامل الحاسمة في تحديد السياسة الخارجية، وتشكل أهمية عظمى من وجهة نظر الأمن الدولي. فقد أثبتت الأنظمة الديموقراطية أنها أكثر مسالمة من الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية.

بيد أن كل ما تحقق من تقدم حتى الآن أصبح اليوم مهدداً. إذ إن نهضة الصين وعودة روسيا إلى البروز على الساحة الدولية من الأمور التي تشير إلى عدم وجود ارتباط لازم بين التنمية الاقتصادية من ناحية، والحداثة السياسية والثقافية من ناحية أخرى. ويبدو النجاح الاقتصادي المبهر الذي أحرزته الصين بصورة خاصة وكأنه إشارة إلى وجود بدائل شمولية عملية للفكرة الغربية التي تربط بين الحرية والديموقراطية وحكم القانون واقتصاد السوق. والحقيقة أن نجاح الصين يشير إلى أن الحداثة الانتقائية أمر ممكن (أو الحداثة على طريقة الاختيار من القائمة بعبارة أخرى)، ويسمح للدول باختيار تطبيق عناصر الحداثة ـ التكنولوجيا، والاقتصاد الحديث، والبنية الأساسية، والمؤسسات السياسية، والقيم السياسية ـ التي تراها مناسبة لظروفها.

إلا أن الحداثة بالاختيار ليست أكثر من مجرد وهم. ويبدو أن أنصار هذه الفكرة قد نسوا التجارب التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين، حين جربت كل من ألمانيا وروسيا تطبيق الحداثة بأساليب استبدادية، وكانت النتائج مأساوية.

إن الحداثة غير قابلة للتجزئة في الأمد المتوسط: فإما أن تحظى بعناصرها كلها أو لا شيء منها على الإطلاق. والحقيقة أن التغيرات التكنولوجية والاجتماعية العميقة التي أطلقتها قوى الحداثة تخلق نوعاً من التوتر غير القابل للانحلال في النهاية في غياب الاستجابات المعيارية والمؤسسية اللائقة.

وليس لنا أن نستثني الصين وروسيا اليوم من هذه القاعدة. إذ إن أعراض مرض الحداثة الانتقائية تتجلى بوضوح في الفساد المتفشي في كل من الدولتين. فالصين، على سبيل المثال، تواجه مصاعب متزايدة في التصدير بسبب عجزها عن السيطرة على سلامة منتجاتها، وهذا العجز يرجع إلى الفساد إلى حد كبير. ومن دون الالتزام بصحافة حرة وجهاز قضائي مستقل فلابد أن تتفاقم هذه الصعوبات.

وقبل أن يمر وقت طويل لابد أن تضطر الحداثة «الموجهة» (الاستبدادية بين قوسين) إلى السماح بحكم القانون والفصل بين السلطات، وإذا لم يحدث ذلك فلسوف تظل الدولة معتمدة على ارتفاع أسعار النفط والغاز، حتى تنزلق إلى صراع وحشي على السلطة، والنفوذ، والمال. فضلاً عن ذلك فلن تتمكن احتياطيات روسيا من النفط والغاز ولا سياساتها الإمبراطورية من إيقاف انحدار روسيا. ففي غياب المؤسسات الديموقراطية العاملة، سوف يكون مصير محاولة روسيا التالية في انتقاء عناصر الحداثة الفشل في النهاية، تماماً كما انتهى الحال بالاتحاد السوفييتي.

في عصر العولمة الذي يعيشه القرن الحادي والعشرين، حيث قد تنتشر الأزمات من جزء ما من العالم إلى بقية أجزائه كانتشار النار في الهشيم، تصبح الحداثة الانتقائية، القائمة على قمع الصراعات والتوترات التي تولدها الحداثة، أشد خطراً. ورغم أن أعظم المخاطر التي تهددت السلام العالمي كانت سياسات القوة والمنافسة الاقتصادية منبعاً لها، فإن المخاطر والتهديدات أصبحت اليوم تنشأ على نحو متزايد من العواقب الإقليمية والعالمية المترتبة على التفسخ السياسي والاجتماعي للدول المستقرة، وانحدار أنظمتها المعيارية والمؤسسية، والإيديولوجيات الاستبدادية الجديدة.

ولهذا السبب أصبح التضارب بين «الواقعيين» و«المثاليين» في السياسة الخارجية، وبين أنصار القوة «الخشنة» و«الناعمة» شيئاً من الماضي. ومما لا شك فيه أن العديد من الدول ما زالت تتبنى سياسات تقليدية قائمة على المصلحة. إلا أن مثل هذه السياسات سوف تصبح بالتدريج أقل قدرة على ضمان السلام والاستقرار في المستقبل. وفي القرن الحادي والعشرين سوف تصبح حقوق الإنسان مغزولة مع الأمن في نسيج واحد لا يمكن حله. وهذه هي العولمة، أو بعبارة أخرى، الاعتماد المتبادل بين البشر الذين بلغ تعدادهم 6.5 مليارات نسمة، يتقاسمون اقتصاداً عالمياً واحداً ونظاماً واحداً في إدارة الدولة.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها الأسبق، وزعيم حزب الخضر في ألمانيا لمدة تقرب من العشرين عاماً.

«بروجيكت سنديكيت»/«معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top