الرئيس ديك تشيني...قائد شركة الولايات المتحدة الأميركية
بعد أن تبيّن أن الحكومة الأميركيّة مجرّد طيف مزيّف، نتساءل كيف تمكنا من فهم الأمور أو بالأحرى فهمه بشكل خاطىء؟ أتكلم عن ديك تشيني، نائب رئيس الجمهورية في المنصب، لكنه فعليا الرئيس التنفيذي لشركة الولايات المتحدة.
كان هذا الأسبوع قاسياً بالنسبة إليه على الرغم من صعوبة تبيان الأمر نظراً إلى سلوكه الهادئ وشبه الابتسامة المرتسمة على وجهه طوال الوقت، وكأنّه يبعث برسالة خفيّة إلى الناس قائلاً «أنا أعرف أمراً تجهلونه». وعلى مدى الأيّام الأربعة الأخيرة، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» مقالات مؤثرة جدا ومفصّلة تتحدث عن تسلط تشيني الخفي والثابت على مفاتيح القوى في واشنطن. ومن جهة أخرى، استدعاه الكونغرس ليشهد في المحكمة، وكان مدعاة للسخرية عندما ادعى أنه ليس حتّى جزءا من الحكومة الفدرالية. ومع ذلك، لا يزال السؤال يتبادر إلى أذهاننا. لمَ لم يحذرنا أحد من ذلك عندما دخل الرئيس المبدئي، أي جورج بوش الابن، البيت الأبيض منذ ستّ سنوات ونصف السنة؟ فمع اختلاف وجهات النظر حول شخصية بوش، رحّب الأميركيون كافة في صيف العام 2000 بقراره تسمية ديك تشيني نائباً للرئيس. وربما كان الرئيس الجديد يفتقد الخبرة ويجهل في أمور العالم، على عكس تشيني الواسع الاطلاع. فهو يوجد في هذه الأروقة منذ الأزل. كان رئيس هيئة الأركان في حكم الرئيس فورد في السبعينيات، وعضواً في الكونغرس، وبعد ذلك وزيرا للدفاع في الثمانينيات والتسعينيات. وقد أدّى دوراً مهمّاً في حرب الخليج الأولى، قبل أن ينتقل إلى القطاع الخاص كمسؤول عن خدمات الطاقة في مجموعة «هاليبرتون». فأتى بخبرة هائلة، ومع ذلك من دون أي طموح لتسلم المنصب الأرفع، وهو أمر نادراً ما شهدناه لدى نوّاب الرئيس. وتصورنا أن يكون تشيني بمنزلة الساحر مرلين بالنسبة إلى الملك آرثر الشاب والفاقد الخبرة، فينصحه بحكمة وصراحة. رأيناه رجلاً ذا خبرة هائلة يعمل من دون أن يضطر إلى أن يبرهن جدارته. وعلى الرغم من كونه رجلاً محافظاً، بدا على مدى التاريخ منطقياً في مقارباته، محافظاً من دون أي مبالغة، ولم يقم يوماً برفع صوته (...). قد لا توافقه الرأي لكن غالباً ما تكنّ له الاحترام العميق. وهل شهد التاريخ حكماً جماعيّاً خاطئاً إلى هذا الحد؟ ماذا جرى لتتحول هذه الشخصية المسالمة إلى أقوى نائب رئيس في تاريخ البلاد، متخطياً الدستور الأميركي ومستغلاً قربه من الرئيس لتجاهل الخطوات الواجب اتباعها لأخذ القرارات. وبلغ حدّاً من السرية صار الرئيس ريتشارد نيكسون قديس التحكيم الشفاف مقارنة به. ولنكن عادلين، حتى أن بعض أهم الشخصيات وقعت ضحية هذا الخداع. فلنأخذ على سبيل المثال برانت سكوكروفت الذي كان مستشار شؤون الأمن القومي في ظل رئاسة جورج بوش الأب عندما تسلم تشيني رئاسة وزارة الدفاع الأميركية. وفي العام 2005، قال سكوكروفت لمجلة «نيو يوركر» «أعتبر تشيني صديقاً جيداً، وأنا أعرفه منذ 30 عاماً. ولكنني لا أعرف ديك تشيني اليوم». ويعتقد سكوكروفت أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001) غيرت نظرة تشيني إلى العالم، وحولت المحافظ المعتدل إلى أحد أكثر أتباع الفيلسوف هوبز تعصّباً. وهو مقتنع الآن بأن القوانين تأتي في الدرجة الثانية بعد مبدأ النيل من الأعداء قبل أن ينالوا منك. غير أننا إن نظرنا إلى المرحلة السابقة لوجدنا دليلاً على وجود «تشيني الجديد» في الرجل الذي خدعنا جميعاً. ففي ربيع العام 2001، ترأس مجموعة للعمل على سياسات الطاقة وقد رفضت حتى الاعتراف بمن مدّها بالمعلومات. واعترضت المجموعات البيئية، إلى جانب بعض أعضاء الكونغرس، على هذه السرية، حتّى أن المعركة تحولت إلى المحاكم. وكالعادة، كسب تشيني القضية. الأمر كان إذاً محضّراً. فخلال السنوات الست الأخيرة، غالباً ما التقيت بأصدقاء صحافيين قريبين إلي كانوا يعملون مثلي على تغطية أخبار الكرملين وأيام عز الشيوعية الخفية. وصُعقنا جميعنا بالتشابه بين ما كانت عليه موسكو وقتذاك وواقع واشنطن اليوم، وكيف ينطبق المبدأ ذاته حول الخضوع لحكم أمناء عامين، وهو ما يجري في ظل حكم جورج بوش الابن، حيث لا يمكنك أن تعرف شيئاً ولكنّك تفهم كل الأمور. وكما احتوت الحكومة الشيوعية عددا من الفصائل المختلفة، ينطبق الأمر ذاته على حكومة بوش. واكتشفنا أن تشيني لم يقم بإدارة الفصيلة القائمة على التعصّب فحسب، بل أنه دفعها لتصير هي المهيمنة الكبرى. ومن دون أي شك، تتوقف المقارنة عند هذا الحد. ففي روسيا الشيوعية كما هي الحال في الفدرالية الروسية برئاسة فلاديمير بوتين، لا يمكن للإعلام أن ينشر مواد كالتي تنشرها صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية. غير أن مقالات الـ«بوست» تؤكد وجهة نظري، وشكوكنا السابقة لا بل حقائق أبعد من ذلك.التفاصيل مذهلة، فمكاتب تشيني تحتوي على خزنات هائلة الحجم، توضع فيها مستندات تصنف على أنها «معلومات فائقة السرية»، وهو تعبير عادة ما يستخدم لتصنيف أهم الأسرار الحكومية. وانصياعاً لأوامر تشيني، تم تدمير نظم ولوج الزوار إلى مكاتبه. ويبدو أن نائب الرئيس ورجاله يصوغون السياسات التي يوقعها الرئيس غير المسؤول من دون النظر إليها. لقد تفوق على باقي القادة السياسين إن في مسألة العراق، والسياسات الضريبية أو حتى الخطر الذي تواجهه أسماك الترويت والسلمون في الأنهر الغربية. قال أحدهم يوماً إن التهكّم انتحر يوم تسلم هنري كيسنجر جائزة نوبل للسلام. ولحسن الحظ، يبدو أن التهكم تخطى تلك الصدمة. غير أنه يواجه من جديد خطر الموت مع فضح حقائق تشيني.فلننظر إلى ما حدث الأسبوع الفائت. طلبت وكالة إشراف حكوميّة مزعجة من تشيني أن يتعاون معها لتصنيف مستندات رسمية، وهو ما يجري عادةً في البيت الأبيض ومع الحكومة الفدرالية. رفض مكتب تشيني الطلب في بادئ الأمر، وبعد ذلك حاول القضاء على الوكالة عندما حاولت أن تتحدى سلوكه هذا. وعندما فشلت تلك المحاولة، اعتمد مستشاروه استراتيجية مختلفة. فادعوا أنه نظراً إلى كونه رئيس مجلس الشيوخ السابق، فهو عضو في السلطة التشريعية التابعة للدستور ولذلك هو معفى من القوانين. ويتأتّى هذا التصرّف عن الرجل ذاته الذي دائماً ما يأتي على ذكر مبدأ امتياز السلطة التنفيذية التي احتمى به نيكسون في محاولته الفاشلة لمنع نشر شرائط فضيحة «ووترغايت». والعجب أن تؤدّي كل هذه الوقائع المفضوحة إلى ردات فعل في اليوم التالي. فعندما هدد مجلس النوّاب بملاحقة تشيني واقتطاع خمسة ملايين دولار أميركي عن نائب الرئيس كونه مسؤولاً في الفرع التنفيذي، خفف تشيني من حدة تصرفاته.لقد ظهرت حقائق الحكم الأميركي الحديث: رئيس لا يعطي التفاصيل أي أهمية على الرغم من امتلاكه ماجستير في إدارة الأعمال، وقد حوّل معظم مهام اتخاذ القرارات إلى نائب رئيس يعمل على الموجة ذاتها مثل رئيس الوزراء البريطاني، فيتحكم في العملية البيروقراطية في مختلف مراحلها، ولا يتعرض لأي تدخل من رئيسه المبدئي.وقد نعت بول أونيل، وزير المالية الأول في عهد جورج بوش، نائب الرئيس بـ«محرّك الدمى»، وقد تم طرده بعد تصادمه مع تشيني. ويشاركه الرأي المحافظون الجدد الذين دعموا سياسات بوش الخارجية. ولم يكن تشيني يوماً واحداً منهم. ومع ذلك، استغل إيمانهم البسيط بإرساء الديموقراطية في الشرق الأوسط ليخفي خططه المظلمة للعراق. وقامت أخيرا مجموعة من الديموقراطيين اليساريين في الكونغرس بقيادة دينيس كوسينيش، الحالم الدائم بالرئاسة، برعاية قرار يدعو الى محاكمة تشيني. غير أن قوته الهائلة تفسر السِّر الأكبر لماذا لم يواجه الرئيس بوش نفسه تهديدا بالمحاكمة. ويأتي الجواب في ثلاث كلمات: الرئيس ديك تشيني. مع العلم بالطبع أنه لم يصبح الرئيس بعد.