بين الإصلاح والثورة
الوضع الراهن في مصر، من وجهة نظر دعاة التغيير الثوري، لا يعدو أن يكون مجرد استمرارية رتيبة لمسرحية الديموقراطية المعروضة على الساحة السياسية المصرية منذ زمن، حتى إن تمت عصرنة الحوارات بين الأبطال وتغيير عدد محدود من الشخصيات الرئيسة.تشي كتابات المفكرين وتصريحات السياسيين المصريين في الآونة الأخيرة، بوجود منهجين متناقضين في التعامل مع قضية الديموقراطية. ففي حين تركز الأغلبية على تدرجية وسلمية التحول الديموقراطي وترى في إصلاح تديره النخب الحكومية وغير الحكومية الحل السحري لمعضلات السياسة والمجتمع في مصر القرن الحادي والعشرين، تتعالى أصوات جماعات صغيرة من المثقفين والحركيين بحتمية التغيير الجذري والقطيعة الكاملة مع نخب عاجزة لم تحقق منذ بدء ما أصبح يعرف في الخطاب الرسمي «مسيرة الإصلاح» الشيء الكثير. وعلى الرغم من هامشية دعاة الفكر الثوري بحسابات القوة المجتمعية، فهم لا ينتظمون في سياق مشروع سياسي واضح المعالم، ولا يعبرون عن قوى اجتماعية لديها القدرة على الدفع في اتجاه التغيير، فضلاً عن التراجع العالمي للمقولات الثورية، وهيمنة رمزية الإصلاح على الساحة العامة المصرية، فإن الحجج المُسَاقة للتدليل على محورية الحل الراديكالي لا يمكن استبعادها بسهولة.أولى وأهم الحجج هذه هي حقيقة محدودية فاعلية النهج التدرجي في التغيير على مدار العقود الثلاثة الماضية، وهي فترة زمنية ليست بالقصيرة. بدأنا في مصر في النصف الثاني من السبعينيات بتعددية سياسية مقيدة ومازلنا حتى الآن لم نتخطها كمرحلة أولية على طريق الديموقراطية. بل يكتشف الناظر إلى المجال السياسي أن الكيفية التي يعمل بها الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة ذاتها، إنما تنبني على أساس استمرارية مركزية الأول وسيطرته على جهاز الدولة، وكأن الأمر يتعلق بحالة قدرية لا مناص منها، مجرد الإمكان النظري لتداول السلطة أو إعادة توزيعها غير مطروح. بالقطع تقدمنا خطوات في مجالات حرية الرأي والتعبير وليبرالية مدخلات ومخرجات العملية الإعلامية - وهو ما فرضته على الأقل جزئياً تقنيات العولمة الاتصالية الحديثة - إلا أن قضايا الحكم الرشيد وتجديد النخب وتحديث جهاز الدولة المصرية والصياغة غير السلطوية لعلاقتها بالمواطنين مازالت محلك سر. ومع الإرهاق الجماعي الذي يبدو في تفاصيل الحياة المصرية كلها وحال الجمود الراهنة، أو الاستقرار كما يحلو للبعض تسميته، يتحول حلم الإصلاح الشامل إلى أمل مراوغ في حدوث تغيير يأتي من أعلى من داخل النخبة الحاكمة على نمط صراعات الحرسين القديم والجديد، وتختزل عملية التحديث المجتمعي في عصرنة بنية وخطاب الحزب الوطني. فهل ينتظر الشعب المصري عقودا ثلاثة أخرى حتى ينجز تحوله الديموقراطي التدريجي؟ أما حجة الراديكاليين الرئيسة الثانية، وهي في واقع الأمر تدحض دفع المنادين بالإصلاح بأن الأمور اختلفت إيجاباً في السنوات الماضية وأن رياح التغيير تكتسب زخماً جديداً في إطار التطورات الإقليمية والعالمية، فتتساءل عن مصداقية ودوافع النزوع الحكومي الحالي نحو الديموقراطية. هل يشكل الضغط الخارجي والمُعَبّر عنه بالمقولة المتواترة في الفترة الأخيرة «الإصلاح قادم لا محالة فلنبادر به»، عاملاً كافياً لتحويل توجهات النظام المصري من الرغبة في تحول مقيد، في أحسن الأحوال، إلى الولوج في معترك الديموقراطية الفعلي بمضامينه المركزية المتمثلة في تداول السلطة عن طريق الاقتراع العام والمسؤولية السياسية واعتماد الإنجاز كمصدر لرضاء المواطن عن الحكومة؟ وإن جاءت الإجابة على هذا السؤال بالنفي - كما يدعي الجميع - فمن أين يأتي الضغط البديل لدفع النخبة الحاكمة في طريق التخلي عن سيطرتها على المجتمع، أخذاً في الاعتبار أنها تمرست على التعاطي مع ضغوط الداخل، وهي محدودة في جميع الأحوال؟ أم هل نفترض أنها قد وصلت على وقع تهافت نجاحاتها في الماضي ومن خلال عمليات متتالية من النقد الذاتي والتجديد الجيلي إلى درجة من التجرد تسوقها إلى التنازل طواعية عن هيمنتها المطلقة؟ وما مصداقية إدارتها للتحول الديموقراطي في هذه الحالة؟ التدبر في كل هذه التساؤلات، وهي مشروعة، يجعل الوضع الراهن من وجهة نظر دعاة التغيير الثوري لا يعدو أن يكون مجرد استمرارية رتيبة لمسرحية الديموقراطية المعروضة على الساحة السياسية المصرية منذ زمن، حتى إن تمت عصرنة الحوارات بين الأبطال وتغيير عدد محدود من الشخصيات الرئيسة.على الرغم من ضعف الأصوات الراديكالية وغموض مشروعها السياسي، فإنه لا يمكن سوى أخذ شكوكها وانتقاداتها موضع الجد. لن يتسنى للنخب الحكومية وغير الحكومية الضالعة الآن في مسيرة الإصلاح التعامل الناجح معها من دون التفكير في نقلات نوعية حقيقية وإنجازها السريع على أرض الواقع. لن تكفي البيانات والإعلانات الجميلة الصياغة والمفتقدة للآلية التنفيذية والسقف الزمني المحدد، ولن تقنع سوى القلة بأن الإصلاح الحقيقي يبدأ بتحديث الحزب الوطني أو بمجرد إزاحة بعض الرموز القديمة.*كبير باحثين في مؤسسة «كارنيجي للسلام العالمي» في واشنطن