نقد أنابوليس ونقد النقد 2-2

نشر في 09-12-2007
آخر تحديث 09-12-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

الواقع أنه لا إسرائيل تستطيع إلحاق هزيمة «نهائية» بالعرب، ولا العرب يستطيعون كذلك إلحاق هزيمة «نهائية بإسرائيل» حتى لو توقفنا عند مستوى نظم الحرب التقليدية، ولسنا بحاجة إلى إثبات أنه لا يوجد شيء اسمه هزيمة نهائية بالنسبة إلى العرب، فهم جماعة قومية تاريخية تلقت عشرات الهزائم، وحققت مئات الانتصارات. وبالمقارنة، فإن إسرائيل لا تستطيع احتمال هزيمة عسكرية واحدة، وهي لهذا السبب أسست مجتمعاً يدور وجوداً وعدماً حول دولاب الحرب.

«أنابوليس» هي المحطة الحالية، وقد لا تكون الأخيرة لمقاربة في السياسة العربية تأخذ بالرهان على الدور الأميركي مهما بلغ تراجعه وتحيزه المطلق لإسرائيل، ومهما كان إغراقه هو في رؤية يمينية أو حتى رؤية دينية ظلامية وقيامية للصراع العربي-الإسرائيلي، كما هو الواقع في ظل رئاسة بوش.

و«أنابوليس» هذه تستحق النقد الشامل الذي يوجه لها يومياُ في الإعلام العربي، والواقع أن مجمل المقاربة المتخاذلة والتابعة للموقف الأميركي تستحق النقد الشامل، فهي ليست الطريق لتحرير أي جزء من فلسطين، وليست المنهجية أو الطريقة السليمة لبناء دولة فلسطينية أو حل الصراع التاريخي حلاً سليماً.

ولكن في المقابل فإن النقد التطهري اللاسياسي، الذي تطرحه حركتا حماس والجهاد الإسلامي، لأنابوليس وكل صور الحل السلمي والتفاوضي يجب أن يخضع للنقد بدوره.

وحتى يرتبط هذا النقد بالجهود الضرورية لصوغ استراتيجية عربية فعالة في القرن الواحد والعشرين لابد من الاعتراف بأنه لا يوجد حل عسكري مطلق للقضية الفلسطينية أو للصراع العربي الإسرائيلي. ويجب توجيه النقد لهذه الرؤية التي تعتقد أن الحل العسكري المطلق ممكن، بل وتقوم برسم سياج من الأساطير التي تجعله الحل الوحيد المشروع دينياً ووطنياً!

إن ذهنية احتكار المشروعية والحقيقة تبدو هي ذاتها مشكلة المشاكل في السياسة والثقافة العربية، وكانت هذه الذهنية هي الأساس الذي برر مختلف صور الشمولية والتسلط السياسي والثقافي في التاريخ العربي الإسلامي، وأيضا في التركيبة السياسية العربية الحديثة.

والمشكلة تبدو أكثر حدة مع الطريقة التي تطرح بها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» التعامل مع اتفاقيات مثل «أوسلو» أو مفاوضات مثل «واى ريفر» و«كامب ديفيد 2» والمفاوضات الحالية المطروحة باسم «مؤتمر أنابوليس»، ذلك أن الحركتين تبديان العداء لمبدأ التفاوض بذاته وتتنبأ على نحو دائم ومسبق فشله بما يؤدى إلى إطلاق العمل المسلح ضدها فينتهي الأمر بأن تحقق النبوءة نفسها بنفسها: أي تسقط المفاوضات ونتائجها بالفعل بسبب الإغلاق المطلق والمبكر للعملية التاريخية ورهنها بخيار وحيد، وهو الحل العسكري النهائي أو المطلق، ووفقا لهذه العقيدة، فإن النضال العسكري وحده هو الطريقة الشرعية الوحيدة للتعامل مع إسرائيل لنيل الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني.

هل ثمة حل عسكري مطلق؟

الواقع أن القول بالحل العسكري المطلق يعني ثلاثة أشياء: إمكان إلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بإسرائيل؛ وتسليم إسرائيل بهذه الهزيمة من دون استعمال «سلاح المطاف الأخير»، أي السلاح الذري وأسلحة الدمار الشامل الأخرى؛ وإمكان أن تحدث مواجهة عسكرية شاملة ومطلقة من دون إبادة فلسطين ذاتها وما فيها من رموز دينية وقومية.

هذه الافتراضات الثلاثة زائفة إلى حد كبير.

الواقع أنه لا إسرائيل تستطيع إلحاق هزيمة «نهائية» بالعرب، ولا العرب يستطيعون كذلك إلحاق هزيمة «نهائية بإسرائيل»، حتى لو توقفنا عند مستوى نظم الحرب التقليدية.

لسنا بحاجة إلى إثبات أنه لا يوجد شيء اسمه هزيمة نهائية بالنسبة الى العرب، فهم جماعة قومية تاريخية تلقت عشرات الهزائم وحققت مئات الانتصارات، وهي بالقطع تستطيع، وهنا تكمن قوة العرب الحقيقية في مواجهة إسرائيل من الناحية العسكرية أن تستوعب الهزيمة في أي عدد من المعارك دون أن تسلم أبداً بنهاية قدرتها على المقاومة وعلى خوض الصراع العسكري في المستقبل، يستطيع حتى ما لا يزيد على «ظفر» سكان العالم العربى أن يواصلوا المقاومة إلى مدى زمني غير محدد ولا تستطيع إسرائيل أبداً أن تقضي على حس المقاومة أو على الرغبة في الكفاح من أجل العدالة.

وبالمقارنة، فإن إسرائيل لا تستطيع احتمال هزيمة عسكرية واحدة، وهي لهذا السبب أسست مجتمعاً يدور وجوداً وعدماً حول دولاب الحرب، فهي ليست مجتمعاً مدنياً ينشئ جيشاً، بل جيش أنشأ مجتمعاً حوله، ومن هنا تنشأ صعوبة إلحاق هزيمة عسكرية بهذا المجتمع.

غير أن ذلك ليس السبب الوحيد، فطبيعة العلاقات التي تلازمت مع نشأة إسرائيل تاريخياً تجعل الحرب ضد إسرائيل حرباً ضد الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الغربية أيضاً، وهذا بذاته يجعل من المتعذر كثيراً تصور تسديد ضربة عسكرية قاتلة أو نهائية لإسرائيل.

وكل الروايات عن حرب أكتوبر 1973، وهي التي هددت إسرائيل بهزيمة ثقيلة، تقطع بأن الولايات المتحدة كانت راغبة ومستعدة لخوض الحرب دفاعاً عن إسرائيل لو تطلب الأمر كذلك.

ولكن لو تصورنا إمكان توجيه هزيمة ساحقة لإسرائيل بالوسائل التقليدية، فإن القائلين بالحل العسكري النهائي يهملون عامل امتلاك إسرائيل ترسانة نووية كبيرة، والواقع أن الفكر الإسرائيلي واضح تماماً في ما يتعلق بامكان استخدام هذه الترسانة لإنهاء حرب تهدد وجود دولة إسرائيل، وليس ثمة أدنى شك في أن الإيديولوجيا الصهيونية قد أكسبت دولتها الوحشية التي تدفعها لهذا الاحتمال. ويعني ذلك أن من يريد خوض حرب نهائية أو مطلقة يجب أن يكون مستعداً لخوضها في النهاية بأسلحة الدمار الشامل.

وعند هذه النقطة يجب علينا أن نتساءل عن معنى النضال العسكري ذاته، فإن كانت طريقة خوض هذا النضال ستقود موضوعياً إلى تدمير فلسطين برموزها الدينية والقومية، فهل يكون لهذا النضال معنى وقيمة حقيقية، أم يتحول الأمر إلى رغبة عدمية فى الانتقام بذاته؟

وعلى الجانب الآخر، إذا كان تطبيق الحل العسكري المطلق وصولاً إلى الحرب بأسلحة الدمار الشامل يعني وقوع ملايين من الضحايا العرب والفلسطينيين، فإن استمرار التفكير في هذا الاختيار يصبح بذاته موقفاً لا أخلاقياً ولا إنسانيا اضافة الى أنه لا عقلانياً.

ضرورة وحدود الأداة العسكرية

وإن كان الحل العسكرى المطلق، الذي تقيم عليه حركتا حماس والجهاد الإسلامي رؤيتهما، أمرا مستحيلا وغير عقلاني أوإنساني فهل يعني ذلك استبعاد كل أشكال حروب التحرير؟

الواقع أن الأداة العسكرية ما زالت ضرورية في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي، ولكن بشرط أن نفهم التحرير باعتباره عملية تاريخية وسياسية وإنسانية ومجتمعية وتبادلية، وبتعبير آخر، فإن التحرير الممكن والضروري ليس بالضرورة عملية من خطوة واحدة، ولا هي بالتالي عملية عسكرية، الأداة العسكرية يمكن أن تكون محفزاً ومحركاً لعملية ثقافية ومجتمعية تتوجها في نهاية المطاف خطوة سياسية تفاوضية.

فطالما أننا نستبعد ما يسمى بالحلول العسكرية المطلقة التي تقوم على الهزيمة الكاملة لإسرائيل، فإن المطروح في نظرية النضال الفلسطيني والعربي ضد إسرائيل هو عملية نضالية قد تشتمل على توظيف أدوات عسكرية في مرحلة بعينها، ولكنها تنتهي بالتفاوض السياسي، وطالما أننا نتحدث عن شيء آخر غير «التسليم التام أو الاستسلام من دون شروط»، فالواقع يفرض التفاوض، ومن ثم إنتاج حل عند نقطة ما بين الطرفين المتصارعين، وليس حلاً يقوم على العدالة المطلقة.

إن هذا الشرط تحديداً هو ما يجعل الأداة العسكرية ممكنة وضرورية وفعالة، فلو أن نيل العدالة المطلقة يتطلب حلاً عسكرياً نهائياً لتدهور الموقف بالضرورة إلى حرب ذرية، وفي المقابل لو أن إسرائيل لم تخشَ من أي عقاب جذري وكبير فلن يكون لديها دافع حقيقي لقبول التسليم بحل وسط تاريخي يمنح الشعب الفلسطيني جانباً كبيراً من العدالة.

ويجب أن نفهم ضرورة الأداة العسكرية عند صوغ استراتيجية عربية بديلة لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي في المستقبل المنظور، ويجب بالطبع أن نفهم كذلك حدودها وحتمية الحل التفاوضي في نهاية المطاف.

هل نكون بذلك قد «خلصنا» من مشكلة إسرائيل؟ بالطبع لا، فالواقع أننا نحتاج أولاً الى أن نخصص أهم عقولنا العربية لصوغ الاستراتيجية الضرورية والممكنة تاريخياً لنيل النصر في المعركة مع الصهيونية بتوليفة من الآليات الواقعية للنضال بعيداً عن أوهام الحل العسكري النهائي، وبعيداً أيضاً عن المبالغة في أساطير غاندي وطاغور في مواجهة دولة وإيديولوجية محترفة للإجرام السياسي.

وما سنطرحه في المقالات التالية هو بعض الخطوط العريضة لمناقشة هذه الاستراتيجية.

* كاتب مصري

back to top