في عمران الكذب 1 - 4

نشر في 22-02-2008
آخر تحديث 22-02-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي كيف يكون للكذب عمران؟ وما علاقة المعمار الخاص (البيت) والمعمار العام (تخطيط المدن) بزيادة أو نقصان الكذب في المجتمعات؟ وكيف يؤثر عمران الكذب على تزييف الوعي في المجتمعات ليستبدل ما هو حقيقة بما هو كذب، وكيف يبدو الكذب أكثر مقبولية وتصديقاً من الحقيقة، تلك هي أسئلة مجتمعاتنا.

أبدأ هنا القول بأن دراسات الكذب محدودة في علمي الاجتماع والإنسانيات (الإنثروبولوجي)، رغم وجود بعض الدراسات الخاصة بسوسيولوجيا أو علم الاجتماع السرية والكتمان، ولم يدرس الموضوع في حالة العلم العربي إلا في دراسة يتيمة لأستاذ الإنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد، مايكل جلسنان، حول الكذب في لبنان، ولم تطرح هذه الدراسة علاقة الكذب بالعمران التي أود تناولها هنا من خلال النقيض، وهو عمران الصدق.

ويجب أن أعترف أولاً بأن الصدق والكذب، رغم أنهما قيمتان اجتماعيتان فإن عملية إنتاجهما تختلف من مجتمع إلى آخر، فمؤسسات إنتاج الكذب على سبيل المثال في مصر تختلف عنها في اليابان أو ألمانيا أو أميركا، كما أن كذب القرية يختلف عن كذب المدينة، ذلك لأن المكان له دور أساسي في رسم ملامح الكذب وقدرته على المرور كما لو كان عبارات صادقة. فالقرية هي مكان محدود يعرف الناس فيها بعضهم بعضاً بطريقة حميمية، ويعرفون التاريخ العائلي لبعضهم بعضاً منذ النشأة، أي أن الكذب في القرية على الأغلب يكون كذباً في الفروع وليس الأصول، في الهامشي وليس في المركزي، في المسموح به وليس في الممنوع. أما المدينة المتحركة والمزدحمة فهي تسمح بمساحات أكبر من الكذب وتمريره على أنه صدق، وتزداد كثافة الكذب مع سرعة حركة البشر وتباعد المسافات لأن وسائل اختبار أو كشف الكذب وأدواته التي تمتحن بها القرية الكذب لا تصلح كمعيار للصدق في المدينة، كما أن الكذب يزداد انتشاراً مع حالة العولمة الحالية، أو ما يمكن أن نسميه بحالة الحداثة العالية (High Modernism). والكذب يختلف أيضاً باختلاف الظروف الثقافية والمجتمعات، إذ يرى هربرت سبنسر، على سبيل المثال، أن الكذب مرتبط بغياب أو ظهور مؤسسات التسلط والاستبداد، أي أن سياق الكذب لابد أن يكون في وجود كفتين غير متكافئتين في علاقات القوة بين: سيد وعبد، حاكم متسلط ومحكوم مغلوب على أمره، بين مؤسسات تدّعي شيئاً وهي تمارس شيئاً آخر. فالعبد مثلاً لا يستطيع مواجهة سيده بالحقيقة، ولا «الكتبة» مثلنا في كثير من عوالم التسلط العربية يستطيعون أن يكتبوا صدقاً مطلقاً في مواجهة الحاكم... نحن نكتب بصدق في الرواية من خلال أشخاص وهميين حتى نتجنب غضب الحاكم، أما صحفنا فهي التي أصبحت مثل الروايات مليئة بالأكاذيب، فقد تبادلت الصحيفة والرواية المواقع.

وفي كتاب آخر للأستاذ جي. ايه. بارنز، بعنوان «حزمة أكاذيب... نحو علم لاجتماع الكذب»، يصل المؤلف إلى استنتاج مفاده، أن بعض المؤسسات، وليس كلها، يمكن أن تعمل بكفاءة إذا حوصرت فيها ظاهرة الكذب، ووضعت في أصغر زاوية وتناقص حجمها إلى الحد الأدنى من دون إنهائها تماماً. وفي بعض المؤسسات التي لا يكون فيها الصدق مطلوباً بدرجة قصوى، يكون الكذب أمراً مسموحاً به، وربما يشجعه بعضهم أحياناً، كالمؤسسات السياسية «الأحزاب مثلا» في البلدان المتسلطة التي تروّج لأفكار بعينها وهي تعلم جيداً زيفها، فهذه المؤسسات لا تسمح بالكذب إنما تروّج له. وفي مثل هذه الظروف ينصح بارنز بالاعتدال في استخدام الكذب كوسيلة اتصال اجتماعية لأن الإفراط فيه قد يؤدي إلى نتائج عكسية، كأن تفقد الأحزاب مصداقيتها تماماً لإفراطها في الترويج لشعارات قد تكون كاذبة وفارغة من مضمونها. وهذه ليست بالنتيجة التي أحاول الوصول إليها هنا، لكن ما يهمني هو عملية إنتاج الصدق والكذب في المجتمعات وأدوات ترويج الحقيقة والزيف. فمثلاً، في مصر نجد أن المسجد أو السوق أو المؤسسات التقليدية هي التي تروّج أحياناً للحقيقة، أما المؤسسات الحديثة مثل الصحيفة أو التلفزيون فإنها تأخذ دور الترويج للزيف والكذب.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top