ملح الكتابة على جدران فهد عافت!

أكبر خطأ أنّنـا نستـاق تعريف للبحر من ملحه!

نشر في 04-01-2008
آخر تحديث 04-01-2008 | 00:00
 سعود الصاعدي ضوء:

سأحاول، في هذه القراءة، أن أتورّط بهذا الخطأ لأعرِّف البحر، وسأخالف الشاعر في رغبته، لأنني سأقتصر على هذا «الملح» الذي جعل لتجربة فهد عافت طعماً مختلفاً، وجعلنا نذوق شعره فنجد له مذاقاً خاصّاً ...!

جدرانٌ على كتابة:

المألوف، في مثل هذا التعبير أعلاه، أن يقال: كتابةٌ على جدران، وهي إشارةٌ إلى تجدّد فعل الكتابة وحدوثه، بخلاف الجدران التي هي ألواح صامتة نتكئ عليها حين نريد أن نعلّق ذاكرتنا على صمتها لتبقى مقروءة، ونحن بهذا الفعل نحاول أن نمنحها «ثباتاً»، برغم إيماننا أنّها فعلٌ متجدّد، وإلا ما السرّ وراء تعليقنا لهذه الكتابة على جدران صامتة لا تحسُّ ولا تشعر؟

فإذا جئنا إلى العبارة المقلوبة في العنوان، وجدنا أنَّ الجدران تتحرَّك لتبقى الكتابة ثابتة، وكأنَّ الشاعر، بهذا التعبير الخارج عن المألوف، أراد أن يعيد الكتابة إلى الأصل الثابت، لأنها ،في رأيه، أحقُّ بالثبات من الجدران التي لا تبقى في الذاكرة، وليس لها شعورٌ يمنحها البقاء والخلود.

من هنا جاء التعبير المقلوب أصحّ، في رؤيته، ومنطقيّته، وعلى هذا فالشاعر حين قلب معادلة العبارة، إنما أعادها إلى ترتيبها الصحيح، فالجدران من دون كتابة جدران صامتة عمياء، وحين تضاف إليها الكتابة ترى وتبصر، وتكون محطّ أنظار العابرين، فتكون بذلك هي المستندة على فعل الكتابة، وليست الجدران، وهذا معنى لطيفٌ لا تقوم به العبارة إلا وفق التعبير الذي يفترض أنّ الجدارن هي التي على الكتابة، وليس العكس، وهو ما جعل شاعراً عميقاً مثل فهد عافت، يجعل هذه العبارة في صدر نصٍّ شعري بعنوان: جدران على كتابة.

ولعلّ فهد عافت أحسّ أنّه بإزاء ترتيب جديد لتراكيب كلماته، من أجل الوصول إلى ثيمة شعريّة خاصة، فنراه دائم التركيز على هذا القلب في التركيب، وهو قلبٌ واع ٍ، يتّكئ على جذر تراثي، وليس كما يظنه بعض دراويش الحداثة، أنه قلب اعتباطي لمجرّد الخروج عن مألوف العبارات من دون وعي.

ويمكن هنا أنَّ نشير إلى هذه الجذور، فقد ذكر الحريري تعليقاً على بيت ٍأنشده سيبويه «أنَّ قلب الكلام من سنن العرب المأثورة وتصاريف لغاتها المشهورة»، والبيت الشاهد ورد فيه قوله: «ترى الثور فيها مدخل الظلّ رأسه»، والأصل أنّه مدخل رأسه الظلّ، وكما يقولون: «أدخلت الخاتم في إصبعي»، وحقيقته إدخال الإصبع في الخاتم، ومنه قوله تعالى «وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة»، والتقدير: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه، أي تنهض بها على تثاقل.

أحسّ عافت أنّ استثمار هذا الباب في اللغة الشعريّة يمكن أن يفتح له باباً لم يكثر طرّاقه، وإن قلّوا ، فصار يتّسع معه اتساعاً مطرداً في تجربته، ويعطيه قدرة جديدة على تطويع صوره الشعرية والبعد عن مسالك الشعراء، لأنَّ أهمّ ما يميّز الشاعر عن غيره هو أن يدخل من بوابة جديدة، أو يسلك طريقا جديدة، أو على الأقل طريقا لم تألفها الحوافر.

هذا الإحساس لم يكن غائباً عن عافت، حتى وهو يتابع أفلام الكرتون، لذلك استطاع أن يلتقط صوره الشعرية من أماكن لا يفطن لها سوى من يتتبّع الشعر في الأماكن غير المألوفة، الأماكن التي لا يردها الشعراء العاديون.

قال في إحدى ملاحظاته النثرية، ذات الحسّ النقدي العالي، التي يكتبها في شطحات «إنّ أجمل مقطع شعري رآه، كان في فلم كرتوني، حيث شاهد النمر الوردي يقطع شجرة، فلمّا قطعها سقطت الأرض! «وأظنّ إحساس فهد بجمال هذا المقطع الكرتوني العميق في رؤيته، جعله يستثمر هذا، وبحرفنة شاعر متمكّن، في مقطع ٍشعريّ عميق:

يا نعمة م النافية

شفت انا الشاعر وهو يشنق بتهمة قافية

شفت رجليه تتدلّى فالهوا

لحظتها شفت الأرض

تمشي حافية

سنقول إنّ أهميّة الشجرة بالنسبة للأرض هي التي نسبت فعل السقوط للأرض، وليس للشجرة، في الفلم الكرتوني، كما أنَّ ارتفاع أقدام الشاعر، وانتزاعه من الأرض بتهمة الشعر / القافية، حين تفتقر إليه الأرض، يجعلها تمشي حافية، وليس العكس.

إنَّ الأرض ليست سوى نعل للشاعر، وحين تنتزعه تكون حافية من دونه، وهنا تتجلّى ثيمة القلب في التراكيب، لأنَّنا في تعبيرنا المألوف نطلق على القدم حين تنزع نعلها صفة: «حافية»، ومع ذلك حين ارتفعت أقدام الشاعر عن نعله / أرضه، صارت - أي الأرض - هي الحافية ، لأنها تفتقر إليه، وتحتاج إليه كحاجتها إلى الشجرة المقطوعة في فلم النمر الوردي.

ويسير بنا عافت، في هذه الطريق، طريق الجدران التي على الكتابة، فيقول، في نصّه «الكرز»، «رفرف الغصن واورق عندليبه»، والرفرفة لذي الجناح: العندليب، بينما الذي يورق هو الغصن، لكن هذا الامتزاج بين الغصن وعندليبه، وهذا التناغم الجميل بينهما، منح الغصن صفة العندليب، والعندليب صفة الغصن، فصار الغصن مرفرفاً والعندليب مورقاً.

وفي النصّ نفسه، يقول «افتحوا للشبابيك المحبَّة»، والأصل أنّ الشبابيك هي التي تفتح لتلج المحبة من خلالها، غير أنّ التعبير بفتح المحبّة يعطي بعداً بلاغياً عميقاً، حين تصبح المحبة طريقا يسلكها المحبّون عبر شبابيكهم.

أمَّا في نصّ النظرة السمحة، فبرغم أنّ الإيقاع يحاصر الشاعر، إيقاع الهجيني، لضيق مساحة الكلمات، إلا أنّ الشاعر لم يغادره من دون أن يضع هذه البصمة الشعرية التي تلازمه، وكأنها حقيقةٌ كامنةٌ في أعماقه لا يستطيع أن يفلت منها، أو تفلت منه:

خذها حقيقـة مـن الأعمـاق

صدرك هو اللي طعن رمحه!

وكأنَّ شاعرنا، يحسّ من أعماقه، {برغم أن ظاهر البيت ومعناه في سياق النص لا يقول هذا}، أنّ الحقيقة التي يبحث عنها تكمن وراء هذه السمة، أو الثيمة، التي من خلالها يستطيع أن يصل إلى الشعر الكامن في الأعماق، وإلا ما الداعي إلى أن يلي البيت السابق، في النصّ، بيتٌ لاحقٌ يوضّح إشكالية الشعر المكرور وأزمته؟ ها هو يقول، عقب البيت مباشرة:

في الكتابةْ جديد آفاق

كم تشبه الكسرة الفتحة!

إذاً، فالشاعر يبحث عن آفاق ٍجديدة للكتابة، آفاق تنطلق من هذه العلامات الإعرابية «الكسرة / الفتحة»، ولا شكّ أن علامات الإعراب ذات مساس ٍبتراكيب الشعر، وبترتيب الكلمات ترتيباً يجعلها ناطقة عن أعماق الشاعر ومفصحة عنه برؤية جديدة، وهذا ما حدا بعافت إلى أن يصطحب معه تراكيبه الشعريّة التي تخالف المألوف، حيث «يرفرف الغصن، ويورق العندليب، وتمشي الأرض حافية، ويصبح الصدر طاعناً والرمح مطعوناً، ويقشّر البرتقال عاشقينه، والسفينة: ناقة البحر الحزينة».

وهي مجازات شعريّة تنطق عن أسرار لطيفة تكمن وراءها، بدءاً من العنوان الذي جعلناه مدخلا للقراءة «جدران على كتابة»، حيث تعطي هذه العبارة بعداً يجعل الكتابة أصلاً ثابتاً، ويحرِّك الجدران لتكون هي المستندة إلى الكتابة، على اعتبار أنّ الكتابة فعلٌ حضاريٌّ حقّه البقاء، والجدران ألواح من الخشب الذي يتآكل بمرور الأيام.

ثم انتهاءً بإحساس الشاعر أنّه مختلفٌ حتى في أحزانه:

إذا الجرح انخلق لانسان انا انسان انخلق لاجراح

واذا الإنسان لابن ادم أنـا ابـن ادم لأحزانـي

ولئن كان البيت يشير إلى حزن الشاعر الذي بلغ حدّه، حتى صار مخلوقًا لجراحه وأحزانه، إلا أنّ هذا المنطوق يشير - بالإضافة إلى معنى ظاهر الألفاظ - إلى ما وراء ذلك من قلب التراكيب التي أوضحنا، في هذه القراءة، أنَّها محور مهمٌّ من محاور قراءة تجربة فهد عافت، وأقول {محاور} لأنّ تجربة ثريّة كهذه تتقاطع فيها الخطوط وتتشابك العلاقات، ويمكن أن تُقرأ من جهات متعدّدة، ومن زوايا شتى، ولكن حسب هذه القراءة أن تقف عند حدود هذه العلامة / الثيمة في ديوان فهد عافت، أو لنقل بدقّة أكثر: في مجموعة شعريّة ترتكز على هذه العلامة، يصحّ أن نضع لها العنوان التالي: جدران على كتابه.

back to top