عزّت حنفي إمبراطور الخارجين على القانون ثلاثة آلاف عسكري ومدرعات ومدافع وقوارب للقبض على السفاح
الجريمة خلقها البشر. وجدت مذ خلق الله آدم أبو البشر جميعا. هي سلوك عدواني يلحق ضررا بالفرد والمجتمع. لم تنجح أي وسيلة في أي زمان أو مكان لمنع وقوع الجرائم. إنها جزء لايتجزأ من السلوك الإنساني وأحد مكونات الحياة في أي مجتمع، أياً تكن ثقافته أو مستواه الحضاري.
رغم التقدم التقني الذي شهده العالم في مجال اكتشاف الجرائم ومكافحتها فإن المجرمين يقومون في خط مواز بتطوير أساليب جرائمهم في محاولة لتضليل السلطات عن مطاردتهم وإنزال العقاب بهم.بخلاف ما يسمى «المجرم بالصدفة» الذى يرتكب نوعا من الجرائم من دون إعداد أو تخطيط مسبق، ثمة المجرمون العتاة الذين يتميزون بتركيبة إجرامية ذات سمات خاصة وتفشل كل الطرق فى إصلاحهم وتهذيبهم كما تفشل كل أنواع العقاب، مهما بلغت قسوتها، في ردعهم.عالم الجريمة مثير لما ينطوي عليه من رعب وتشويق. وإن كان عالماً صغيراً، إلا أنه يعكس الحياة البشرية بأكملها إذ يمثل حالة الصراع الدائم بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين القوة والضعف، بين الفضيلة والرزيلة.نقدم هذا العالم الغريب في حلقات متتالية، من مصر بلد التاريخ والحضارات المختلفة، بلد الجوامع والكنائس، بلد الهرم والنيل، لكن أيضا بلد «الخط» وريا وسكينة والتوربيني. في الواحدة من صباح ليل الأحد 18 يونيو/ حزيران 2006 توجهت مأمورية أمنية بإشراف النيابة العامة إلى سجن الاستئناف في القاهرة. دقائق ثم كان مأمور السجن مع حمدان في عنبر الإعدام.ربما لم ينم حمدان تلك الليلة بعدما أبلغته قيادة السجن أن مصلحة السجون استجابت لطلبه وسترّحله إلى سجن برج العرب حيث يقبع شقيقه عزت حنفي خلف جدرانه بعد صدور قرار تأديبه وإبعاده عن القاهرة لكثرة مشاغباته داخل السجن.جاء طلب النقل الذي تقدم به حمدان بعد أيام من ترحيل عزت الذي أضرب عن الطعام داخل عنبر الإعدام وأثار الشغب مع مباحث السجن. فكان قرار الترحيل إلى سجن الغريبات في منطقة برج العرب (غرب الإسكندرية) الحل الوحيد لإبعاد النار عن البنزين.لم يتكاسل حمدان. جمع حوائجه من الزنزانة الضيقة. حاول النوم داخل سيارة الترحيلات لكنه لم يستطع، إذ حال دون ذلك طول المسافة وأرضية السيارة. لم تهاجمه الكوابيس تلك الليلة بل كان همه الأوحد وشغله الشاغل شقيقه عزّت.لم يشك لحظة واحدة في أن هذه الرحلة من سجن الاستئناف إلى برج العرب ستكون الأخيرة. أمل في أسيوط في استمرار الحياة ولو لأشهر عدة. كان يطمع هو وشقيقه عزت في عفو رئاسي، ورغم رفض الالتماس الذي تقدم به دفاعه إلى الحاكم العسكري عاود التماساً آخر وانتظرا لكن الأمل لم يأت.إكتملت الترتيبات في برج العرب لإعدام الشقيقين. عزت منزوٍ في زنزانته بينما زوجته لم تره منذ أكثر من أسبوعين حتى ابنه محمود لم يزره في المرة الأخيرة. انتهت القوة المرافقة من التوقيع على كشف المأموريات خلال دقائق قليلة ثم توجه حمدان وسط حراسة مشددة إلى زنزانة عزت قبل الفجر بدقائق. تقابلا بالأحضان. استمر العناق لأكثر من عشر دقائق. لم يعترض رجال المباحث وقيادات السجن على العناق الطويل كونهم يعلمون أن هذه اللحظات ربما هي الأخيرة في حياة الشقيقين.قبل أن يهم عزت بالسؤال عما هو مطلوب منه وهل سيبقى مع شقيقه أم لا أمره مسؤول السجن بالدخول إلى زنزانته موضحاً له أن رجال السجن سيصطحبون شقيقه الى زنزانته التي تبعد خطوات عن زنزانته.على منصة الإعدامأغلق الباب على عزت حنفي وانصرف الجميع. ثم عادوا بعد أكثر من ساعة أي قرابة الخامسة والنصف فجراً. دخل إليه أحد الضباط وأخبره بأن شقيقه حمدان يحتاج إليه وستبدّل الزنازين. خرج عزت بهدوء. لم يكن يتوقع أن لحظة الموت حلت وأنه بعد دقائق وربما ثوان سيكون في عداد الأموات. رافقهم إلى حجرة الإعدام من دون علم منه. كان الزحام على بابها شديداً وثمة رجل يمسك بيده المصحف والمسبحة ويرتدي جلباباً. وقف عزت أمامه مرغماً. بدأ الشيخ في تلاوة آيات من القرآن الكريم ثم لقنه الشهادتين. في هذه اللحظة فحسب انهار عزت حنفي. كاد يسقط أرضاً لكن رجال السجن أمسكوه بقوة واقتادوه إلى المشنقة.«حسبي الله ونعم الوكيل» هي العبارة الأخيرة التي نطق بها عزت علي حنفي قبل أن يصمت إلى الأبد. بعد ذلك انصرف السجّان إلى زنزانة حمدان وبرفقته قوة من رجال السجن. كانت حالته مختلفة تماماً عما كان عليه عزت. فجأة توترت أعصابه ثم انهار وبصعوبة شديدة بلغ غرفة الإعدام. كان يدرك أنها اللحظات الأخيرة في حياته على عكس الإمبراطور عزت الذي كان هادئاً. صرخ حمدان: «أنا مظلوم أنا مظلوم» رددها غير مرة. لم يعبأ بما كان يُقرأ ويتلى عليه من آيات بينات. حتى عندما غطوا رأسه بـ «الطاقة السوداء» لم يصمت. ثم كانت النهاية. في الحادية عشرة قبل الظهر أبلغوا شقيقته مديحة بالتوجه إلى سجن برج العرب لتسلم الجثتين. ورغم الانهيار الذي أصيبت به فور تبلغها خبر إعدام شقيقيها توجهت مع نساء العائلة وبعض المعمّرين والأطفال إلى حيث صعبت الأمور قليلاً، فالجثتان في مشرحة كوم الدكة وإنجاز الإجراءات تطلب وقتاً طويلا: من السجن إلى الصحة إلى النيابة.في طريق العودة الصحراوي مصر- الإسكندرية تأخرت سيارة نقل الموتى أكثر من ساعة أمام بوابة الرسوم وساعة اضافية بسبب سحب تراخيص القيادة لبعض السيارات التابعة لأولاد علي حنفي لتبدأ الرحلة الشاقة إلى أبوتيج وتحديداً إلى النخيلة. الساعات طويلة والمسافة أطول. كان أول كمين شرطة متمركزاً أمام منزل مرزوق سباق الخصم اللدود لعزت حنفي. توقفت السيارة لدقائق وكأن في ذلك إبلاغ رسالة معينة إلى عائلة سباق. لكن ما الحيلة؟ هنا تعالى صراخ النساء وبكاء الأطفال. شعر الجميع بالذل والهوان إذ شاهد الخصم جثتي عزت وحمدان اللذيْن كانا ملء السمع والبصر وأصبحا الآن لا شيء.فقدت عائلة سباق في صراعها مع عزت حنفي تسعة رجال قتلوا جميعاً بالرصاص. فشلت المحاولات في بلوغ منزل مرزوق سباق الذي كان تحت الحصار الأمني إلى درجة توحي أنه أصبح مهجوراً.في منطقة المقابر على الطريق الغربي وعلى مسافة ثلاثة كيلومترات من النخيلة كان العميد طارق جمعة ينجز التحضيرات لعمليات الإنارة داخل المقابر وخلف المزروعات مستخدماً المولدات الكهربائية بغية تأمين الأمن فيها. في حوش عائلة أولاد علي حنفي تراصت النساء والأطفال وخمس معمرّين. وأوصى أحد رجال الأمن الحضور بضرورة صلاة الجنازة على عزت وشقيقه لعدم الصلاة عليهما منذ إخراجهما من مشرحة كوم الدكة.تحركت السيارة رقم 18 تحت الطلب إلى مسجد صغير «زاوية» تحرسها 15 سيارة شرطة للصلاة على الجثتين. رفضت القيادات الأمنية طلب مديحة حنفي شقيقة عزت الصلاة عليه في مقام سيدي الفرغلي في أبوتيج. بعد الصلاة أنزلت مجموعة من رجال المباحث عزت. احتضنته شقيقته مديحة ثم زوجته وسط صراخ النساء والأطفال. ومنع مسؤول أمني الصحافيين من استخدام كاميرات التصوير مع «الفلاش» حفاظاً على مشاعر النساء وخوفاً من الهياج والثورة.وُضعت جثة عزت بجوار جثة والده الذي توفي في سجنه قبل موعد خروجه بشهرين ثم بعده جثة حمدان. بعد إغلاق باب القبر على الجثتين صاح صبي في رجال الأمن الذين أمنوا عملية الدفن قائلاً: «كفاية عايزين منا إيه بتتفرجوا ليه على الحريم». ثم تعالى الصراخ أكثر وأطفئت الأنوار بناء على طلب الرائد ياسر رحيم معاون مباحث أبوتيج لتهدئة الأجواء وانصرف الجميع.الإمبراطور... شمشونكانت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ قررت بالإجماع في جلسة 28 يونيو/ حزيران عام 2005 إحالة أوراق المتهمين الأول والثاني إلى مفتي الديار المصرية في القضية رقم 192 جنايات أمن دولة وأيّد المفتي حكم الإعدام بحقهما مبرراً حكمه بما اقترفاه من جرائم الحرابة وترويع الآمنين وزراعة المخدرات والإتجار فيها على مدى سنوات في قرية النخيلة التابعة لمحافظة أسيوط في صعيد مصر، بعد أن فرضا عليها سيطرتهما بعيداً عن نفوذ الأمن. لم يستطع أحد من أبناء القرية إبلاغ السلطات بما يحدث خوفا من بطش الشقيقين اللذين لم يتورعا عن قتل خمسة مواطنين كانوا حاولوا الإبلاغ عنهما.تتلخص وقائع القضية في أن المتهمين عزت حنفي وشقيقه حمدان و30 متهما آخرين ألفوا عصابة استولت على 280 فدانا في جزيرة النخيلة وزرعوا عشرات الأفدنة بالمخدرات ومنعوا دخول قوات الشرطة من خلال بناء ثلاثة أبراج على المداخل الثلاثة للجزيرة، فنصبوا من ناحية النيل مدافع مضادة للطائرات المروحية التي تستخدمها الشرطة لمنع محاصرتهم كما خطفوا 107 من النساء والشيوخ والأطفال من أهالي الجزيرة واحتجزوهم رهائن لسبعة أيام.بدأت المواجهة بين الأمن وعزت حنفي في أواخر فبراير/ شباط عام 2004، فتعرضت قوات الأمن لمقاومة شديدة من عصابته، لا سيما أنه احتجز العشرات من أهل البلدة كرهائن وعلّق المئات من أسطوانات الغاز في أشجار النخيل المحيطة بالبلدة ما يعرضها كلها لانفجار مروع. رفض أيضاً الاستسلام على مدى أسبوع كامل كانت البلدة خلاله تحت الحصار فاتخذت قيادات الداخلية قرارها باقتحام قلعة عائلة حنفي وبدأت العملية التي كانت أشبه بعملية عسكرية على قرية النخيلة الحصن المنيع لزعيم السفاحين عزت حنفي. استخدمت في عملية الاقتحام أكثر من خمسين عربة مدرعة وستين زورقا نهريا وما يزيد على ثلاثة آلاف جندي وضابط من القوات الخاصة فسقط عدد كبير من أفراد العصابة في أيدي رجال الأمن وفي مقدمهم عزت حنفي الملقّب بــ{شمشون»، بعد أن صدرت ضده أحكام بلغ مجموعها 156 عاماً.قلعة النخيلةليست النخيلة جزيرة لكنها شبه جزيرة متصلة بوادي النيل من ناحية قرية النخيلة وتقسم طبيعياً جزءين: الجزء الغربي ويحتوي على مساحات من الأراضي الزراعية والجزء الشرقي الذي يضم معاقل الخارجين على القانون.تزرع العصابات في هذه القرية المخدرات بكثافة وتتاجر فيها على نطاق واسع، إضافة إلى الإتجار بالسلاح الذي كان منتشراً بكثرة بين أفراد العصابة يستخدمونه في ترويع المواطنين من سكان القرية. بنت هذه العصابات الحصون في أنحاء جزيرة النخيلة التي اتخذت أشكالا منها الأبراج التي ترتفع أحياناً إلى خمس طبقات والدُّشم الحصينة المبنية من الطوب اللبِن الذي تخترقه طلقات الرصاص، كما حفروا وخنادق تحت الأرض تمكنهم من إطلاق الرصاص على أي قوة تهاجمهم. إضافة إلى التحصينات كانت هذه العصابة تمتلك كميات هائلة من الأسلحة والذخائر من المسدسات والبنادق العادية والآلية إلى المدافع من طراز جيرنوف التي يبلغ مداها أكثر من سبعة كيلومترات وتطلق قذائف من عيار نصف بوصة وقدرت الشرطة أعداد هذه المدافع في النخيلة بنحو ثمانية. عدا التحصين، نصبت عائلة أولاد علي حنفي أسطوانات غاز البوتاغاز على الأسوار وجذوع النخيل تمهيداً لتفجيرها في حال أقدمت قوات الأمن على اقتحام مواقعهم. أما نهر النيل فملأوه بالأسلاك والعوائق الصناعية كي لا تتمكن الزوارق النهرية من الالتفاف حولهم واحتجزوا مئات الرهائن مهدّدين باستخدامهم دروعاً بشرية في حال تعرضهم لأي هجوم.تمركزت عصابة أولاد حنفي والعائلات الموالية لها في القطاع الشرقي من الجزيرة وهو القطاع الذي يضم مساحات هائلة من زراعات القنب الهندي والبانجو وغيرها من النباتات المخدرة، يحرسها رجال لا تخيفهم قوات الشرطة، لأن كثراً منهم محكوم عليهم غيابياً بالإعدام أو بالسجن المؤبد.الإمبراطور صنيعة الأمنخلال الحصار كان عزت حنفي يستخدم هاتفه المحمول في الحديث إلى الفضائيات والصحافيين قائلاً إن السلطات ترغب في التخلص منه رغم أنه ساعدها عام 2000 خلال انتخابات مجلس الشعب وساعد السلطات في حربها ضد الإرهاب خلال التسعينات، أي في الفترة التي شهدت نشاطا كبيرا للجماعات الإسلامية في أسيوط بخاصة وفي الصعيد بعامّة.قال عزت علي حنفي انه قتل أعدادا كبيرة من الإرهابيين بناء على تكليفات من السلطات الأمنية وأنه حصل على الأسلحة من الشرطة لإتمام هذه المهمات.أقرّ هذا المجرم الذي روّع الصعيد بأن سلاحه ونفوذه هما من صنع الأجهزة الأمنية التي كان يعمل مرشدا لحسابها خلال حربها ضدّ الإرهاب فتغاضت عن جرائمه وعن الأحكام القضائية الصادرة في حقه فكان أن انتفض في وجهها.