الإسلام الليبرالي

نشر في 08-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 08-07-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي الإسلام الليبرالي هو إحدى صياغات اليسار الإسلامي. وهو موجود بالفعل تحت هذا الاسم في إندونيسيا عند أولي الأبصار تطويراً لليسار الإسلامي في القاهرة، على الرغم من مغالاته في الليبرالية على مستوى الرأي العام ومدها إلى العبادات، بحيث يحقق أهدافها بوسائل أخرى، كما قال الفلاسفة من قبل. فالعبادات وسائل وليست غايات. الصلاة للسمو الروحي، وأداء الأفعال في أوقاتها. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء. والصوم إحساس بجوع الفقراء. والحج تجمّع سنوي للتعبير عن حال الأمة بين أعدائها وأصدقائها.

وقد أصبح اللفظ المعرّب لفظا مستعملاً متداولاً مثل بعض الألفاظ القديمة، فلسفة وموسيقى وهندسة وبعض الألفاظ العلمية الحديثة مثل الراديو والتلفزيون والتلفون والكومبيوتر والإنترنت، ومثل بعض الألفاظ السياسية كالديموقراطية والبرلمان والإيديولوجيا والماركسية. فاللفظ القديم «الحرية» يقال في مقابل «العبودية» في الفقه، وقد اختفى نظام العبودية في التاريخ في القرن التاسع عشر في الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب.

والرغبة في الحرية رغبة عارمة في قلوب الناس لمعاناتهم من نظم القهر، ملَكيّة كانت أو جمهورية، مدنية أو عسكرية. تسيطر الدولة فيها على كل وسائل التعبير في أجهزة الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية. وكل رأي جديد يتهم صاحبه بالردة أو الكُفر أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة. وتتفق كل التيارات السياسية الرئيسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، الإسلامية والقومية والليبرالية والماركسية، على أن القضية الرئيسية في الحياة العامة هي قضية الحرية. يعاني أنصارها من الاضطهاد والسجن والاعتقال. وهي أجنحة المعارضة الرئيسية في البلاد. وتدل تقارير منظمات العفو الدولية على وجود حوالي عشرين ألفا من المعتقلين السياسيين في الوطن العربي وحده. بل يُصدر إليه معتقلو غوانتانامو للتعذيب في أوطانهم وليس في الولايات المتحدة الأميركية خشية الإعلام والقانون.

والحرية حق طبيعي للإنسان. أعلنه عمر بن الخطاب منذ أكثر من أربعة عشر قرناً «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟»، واستعادة أحمد عرابي في مواجهة الخديوي توفيق عارضاً عليه مطالب الجيش والشعب «إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقاراً. والله لا نستعبد بعد اليوم» من تعاليم الأفغاني. وكتب الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» دفاعاً عن الحرية. ودافع عنها خالد محمد خالد في «الله والحرية». وساهم في ذلك المفكرون العرب مثل محمد عزيز لحبابي في المغرب في «حرية أم تحرر؟».

ولم تغب الحرية عن تراثنا القديم وإن ظهر معناها بألفاظ أخرى مثل «خلق الأفعال» في علم الكلام خاصة عند المعتزلة. فالإنسان خالق أفعاله أي صاحبها وإلا انتفت المسؤولية عنها في الدنيا والآخرة، وضاع قانون الاستحقاق، الثواب أو العقاب على الأفعال. وفي الفلسفة الخلقية عند الفارابي ومسكويه الحرية شرط الفعل الخلقي الإرادي. والإنسان يختار بين حياة الفضيلة وحياة الرذيلة، بين تنمية قواه الشهوية أو الغضبية أو العاقلة. وعند الصوفية، الحرية داخلية، حرية الضمير والتغلب على شهوات الدنيا والتحرر منها. وفي أصول الفقه حرية الأفعال في المندوب والمكروه، المندوب هو حرية الاختيار بين الفعل وعدم الفعل والأفضل الفعل. والمكروه حرية الاختيار بين الفعل وعدم الفعل والأفضل عدم الفعل. والمباح حرية الفعل أو عدم الفعل فالإنسان حر طليق في أفعاله الطبيعية. شرعيتها في وجودها.

وفي الفقه يتحرر الإنسان من العبودية بالعلم. إذ لا يجوز استعباد العالم في حده الأدنى، وهو القراءة والكتابة. ولا يجوز استعباد الأم، فالأمومة تربية الأطفال على الحرية، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولا يجوز استعباد الشجاع المحارب الذي يدافع عن القبيلة ضد الغزو والعدوان. فالشجاعة فعل من أفعال الحرية. وإذا ارتكب الإنسان ذنباً فعليه تحرير رقبة. فالعبودية ذنب يجب التكفير عنه بالتحرير.

والشهادة نفسها فعل من أفعال الحرية. تبدأ بالشهادة أي بالرؤية والإعلان. فالمسلم هو الذي يشهد على ما يقع في عصره من أحداث وما يتحكم فيها من نظم. ليس كالحكمة الصينية القديمة «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم»، أو بالتعبير المسرحي الشعبي «شاهد ما شافش حاجة». ثم يقوم المسلم بفعلين من أفعال الشعور، فعل النفي فى «لا إله» أي نفى كل آلهة العصر المزيفة، الثروة، الجاه، السلطة، الجنس، الشهرة. فإذا ما تحرر منها يقوم بفعل الإثبات «إلا الله» أي الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع. فالشهادة تعني حرية الضمير والوجدان. وهو ما يدفعه الى قول الحق. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. (وإذ قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جهر بالحق مثل النصيحة. ووظيفة الحسبة الكشف عن الزيف في المعاملات والاحتيال في الموازين والأسعار في الأسواق. فالمسلم لا يخاف من الإعلان عن الحق لأن حرية الرأي والتعبير والتفكير من مقتضيات الإيمان (إن الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).

الحرية في القول والعمل، في الفكر والاعتقاد. تمنع الإنسان من ازدواجية الشخصية والنفاق والرياء والمدح (قتل الخراصون). الحرية هي الإعلان والبيان والبلاغ (فاصدع بما تؤمر). الحر كالرسول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته. والله يعصمك من الناس).

يكفي اليسار الإسلامي أن يكون مدافعاً عن حريات الناس ضد قهرهم والتسلط عليهم. فبدون الحرية لا تنشأ استنارة عقل، ولا توزيع ثروة، ولا إحراز تقدم، ولا تأكيد حق طبيعي، ولا وجود لإنسان.

 

كاتب ومفكر مصري

back to top