الصين واقتصادها المنكمش العجيب

نشر في 01-04-2008
آخر تحديث 01-04-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت أعلن البنك الدولي أخيراً أن الحجم الحقيقي للاقتصاد في كل من الصين والهند أقل بنسبة %40 عن التقديرات السابقة. وبما أن هذين البلدين هما الأسرع نمواً بين البلدان ذات الاقتصاد الضخم على مستوى العالم، فقد اختصر البنك في تعديله نصف نقطة مئوية من النمو العالمي طوال السنوات الخمس الماضية، طبقاً لصندوق النقد الدولي.

أثارت هذه الأرقام الجديدة عاصفة نارية من المناقشات، وجلبت إلى السطح نظريات المؤامرة، ولكن بعد أن تهدأ الأمور ويستقر الغبار فقد يتبين أن البيانات الجديدة أقل ثورية مما يتصور بعض الناس. وقد يترتب على هذه البيانات الجديدة فائدة غير متوقعة، تتمثل في تحول الحوار السياسي الرئيسي نحو اتجاه أكثر إيجابية.

تستند البيانات الجديدة إلى تقديرات محسنة لمعادل القوة الشرائية. وتتلخص الفكرة الأساسية هنا في أننا حين نقارن الدخول عبر البلدان، فلابد من أن نضع في حسباننا الاختلافات في القوة الشرائية من بلد إلى آخر. ولا تشكل أسعار صرف السوق مؤشراً جيداً لهذه الاختلافات، لأنها قد تتقلب لأسباب أخرى.

عمل البنك الدولي وبعض المنظمات الأخرى مجتمعة على جمع كميات هائلة من المعلومات التي غطت عشرة آلاف منتج متشابه في 146 دولة بهدف بناء قاعدة أسعار دولية متشابهة. ولقد تبين أن مستويات الأسعار في الصين والهند، بين دول نامية أخرى، أعلى كثيراً من التقديرات السابقة. وعلى هذا فإن مستويات دخل الفرد في هذه البلدان أقل مقارنة بنظيراتها في دول أخرى.

رغم هذا الانكماش الهائل فإن الحقيقة على الأرض لم تتغير، فقد أبدى الناس في بكين ودلهي قدراً من الاتزان والهدوء قد لا يتمتع به غيرهم في أي مكان من العالم إذا ما تقلصت دخولهم فجأة بنسبة %40. والخلاصة هنا أن الصين والهند مازالا بلدين يتمتعان باقتصاد ضخم وسريع النمو، ويستهلكان كميات هائلة من الموارد. وكل ما تغير هو أن البلدين أصبحا يلعبان دوراً أصغر حجماً على المسرح العالمي.

بيد أن الحجم لا يشكل وحده كل الأهمية، إذ ان البيانات الجديدة تتدخل أيضاً في تقييم مدى الفقر ومستوى سعر صرف العملة، وهنا يبرز الدور الذي تلعبه نظرية المؤامرة.

إن انكماش مستويات الدخل نسبة إلى الأسعار الدولية يعني أن العديد من الناس في الصين والهند أصبحوا الآن يندرجون تحت تصنيف «فقراء»، الأمر الذي يشكل نعمة بالنسبة إلى البنك الدولي الذي تتلخص مهمته الأساسية في مكافحة الفقر، فضلاً عن ذلك فإن الحقيقة التي تؤكد أن سعر صرف السوق في الصين كان أقل كثيراً (أكثر من يوان عن كل دولار) من أسعار الصرف المعدلة طبقاً لمعادل القوة الشرائية تُفَسَّر باعتبارها دليلاً على تدني التقييم عن حقيقته بصورة هائلة. أما البيانات الجديدة في المقابل فإنها تُظهر أن سعر صرف الرنمينبي (عملة الصين) نسبة إلى الدولار صحيحة تقريباً.

قد تخضع الحسابات لبعض التطويع، ولكن من الصعب أن يصل هذا التطويع إلى الانخفاض الهائل في التقييم، والذي بلغ بين 40 و%50. ولقد أدى هذا إلى إثارة الاتهامات التي تقول إن المدافعين عن الصين هم الذين طبخوا هذه الأرقام الجديدة.

إلا أن نظريات المؤامرة بعيدة كل البعد عن الواقع؛ فقد انخرط البنك الدولي في جهود مخلصة لإحراز التقدم في ما يتصل بقضية على قدر عظيم من التعقيد. بطبيعة الحال، هناك بعض الثغرات في البيانات الجديدة؛ على سبيل المثال، تعتمد البيانات الخاصة بالصين على دراسات مسح أجريت في 11 مدينة فقط. كما تم تقدير الأسعار في المناطق الريفية حيث يعيش ثلثا سكان الصين استناداً إلى هذه البيانات. وهذا يعني أن الأمر لم يخل من التخمين، رغم تبني أسلوب نظامي منضبط، لكن الحسابات السابقة كانت تعتمد على قدر أعظم من التخمين على أي حال.

أياً كانت استنتاجاتنا في ما يتصل بهذه البيانات، فإن أعداد الناس الذين يعيشون في ظل ظروف سيئة في هذه البلدان ضخمة إلى حد غير معقول؛ أما في ما يتصل بسعر الصرف، فإن معادل القوة الشرائية يشكل وسيلة واحدة بين عدة وسائل لحساب مستوى توازن سعر الصرف. ونظرا إلى الفائض الهائل في الحساب الجاري لدى الصين (%12 من الناتج المحلي الإجمالي)، فما زالت قيمة الرنمينبي أقل من حقيقتها.

بيد أن درجة الانخفاض عن القيمة الحقيقية ليست مقصدنا هنا؛ إن الصين بحاجة إلى سعر صرف أكثر مرونة، قادر على الاستجابة بقدر أعظم من الحرية لقوى السوق، وإلا فإن البنك المركزي الصيني لابد أن يركز على إبقاء سعر الصرف مستقراً وألا يتبنى سياسة نقدية مستقلة حقاً.

إن المزيد من المرونة من شأنه أن يساعد في الوصول إلى نمو أكثر توازناً وأعظم قدرة على الاستمرار، إذ إن هذا سيسمح للبنك المركزي برفع أسعار الفائدة بصورة حادة بهدف السيطرة على الائتمان ونمو الاستثمار، والتحكم في التضخم في الوقت ذاته. فضلاً عن ذلك فإن رفع أسعار الفائدة على الودائع المصرفية، والتي أصبحت الآن سالبة قياساً إلى الأسعار الحقيقية، من شأنه أن يقلل الحوافز التي تدفع الأفراد إلى صب الأموال في أسواق الأوراق المالية أو العقارات، وبالتالي تخفيف خطر ظهور الفقاعات في سوق الأصول ودورات الازدهار والانخفاض في الاقتصاد.

في المقابل سنجد أن محاولة تحديد المستوى «المناسب» لسعر الرنمينبي تشكل لعبة غير مجدية، كما أصبح اقتراح رفع القيمة بالتدريج من أجل الوصول إلى ذلك المستوى بمنزلة تشتيت جدلي. ربما تنجح البيانات الجديدة في تهدئة النبرة المتحمسة بشأن انخفاض قيمة عملة الصين عن حقيقتها ومسألة استغلال العملة، والانخراط بدلاً من ذلك في مناقشة واقعية بشأن مرونة سعر الصرف والفوائد المترتبة على ذلك بالنسبة إلى الصين والعالم.

* إسوار براساد ، أستاذ التخطيط التجاري بجامعة كورنيل، ورئيس قسم الصين سابقاً لدى صندوق النقد الدولي.

«بروجيكت سنديكيت»، بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top