أميركا والمنافع العامة العالمية

نشر في 25-09-2007
آخر تحديث 25-09-2007 | 00:01
الولايات المتحدة ستظل على الأرجح تشكل القوة المتفوقة الراجحة على مستوى العالم، حتى بعد أن تخلص نفسها من مستنقع العراق، ولكن يتعين عليها أن تتعلم كيف تعمل مع الدول الأخرى وكيف تتقاسم معها القيادة.
 بروجيكت سنديكيت لقد أصبحت أميركا الآن كمن أصيب بالشلل نتيجة للورطة التي أوقعت فيها نفسها في العراق، إلا أن المرشحين الرئاسيين قد شرعوا أيضاً في التساؤل عن المبادئ التي يتعين على الولايات المتحدة أن تسترشد بها في إدارة سياستها الخارجية بعد العراق. أعتقد أن التركيز على «المنافع العامة العالمية» -وهي الأشياء التي يستطيع الجميع أن يستهلكوها من دون أن يؤدي هذا إلى تضاؤل المتاح منها بالنسبة للآخرين- من شأنه أن يساعد أميركا في التوفيق بين قوتها المتفوقة الراجحة ومصالح الآخرين.

مما لا شك فيه أن المنافع العامة المحضة نادرة الوجود، وأغلب هذه المنافع لا يقترب إلا جزئياً من الحالة المثالية المتمثلة في الهواء النظيف، إذ لا نستطيع أن نستثني أحداً، وتعم المنفعة على الجميع في الوقت نفسه. وربما تشكل مسألة مكافحة تغير المناخ العالمي الحالة الأكثر بروزاً وتأثيراً في الوقت الحالي.

ولكن ما لم تبادر الجهة الأكثر استفادة من سلعة عامة ما (مثل الولايات المتحدة) إلى الاضطلاع بدور ريادي في تخصيص موارد متكافئة نحو توفير هذه المنفعة، فلن يكون بوسع الجهات الأقل استفادة أن تقدم مثل هذه المنفعة، وذلك بسبب صعوبة تنظيم العمل الجماعي حين يشترك في الأمر أعداد ضخمة من الجهات. ورغم أن تحمل هذه المسؤولية كثيراً ما يسمح للآخرين «بالركوب بالمجان»، إلا أن البديل يعني عدم ركوب أحد على الإطلاق.

الحقيقة أن الولايات المتحدة قادرة على تحصيل كسب مضاعف، من خلال توافر المنافع العامة في حد ذاتها، وبسبب إسهام هذه المنافع في إضفاء الشرعية على قوتها الراجحة في أعين الآخرين. ويتعين على أميركا أن تتعلم من درس القرن التاسع عشر، حين كانت بريطانيا العظمى هي القوة الراجحة في العالم، فتولت دورها القيادي في الحفاظ على توازن القوى بين الدول الكبرى في أوروبا، وروجت لنظام اقتصادي دولي مفتوح، وعملت على صيانة حرية البحار.

إن هذه القضايا تظل وثيقة الصلة بوضع العالم اليوم. والحقيقة أن تأسيس القواعد التي تكفل الحقوق المتساوية للجميع يظل في حد ذاته يشكل الآن منفعة عامة، تماماً كما كان الأمر آنذاك، حتى على الرغم من تعقيد بعض القضايا الجديدة. إن صيانة توازن القوى على المستوى الإقليمي وتثبيط الحوافز المحلية الدافعة إلى استخدام القوة لتغيير الحدود يشكل منفعة عامة بالنسبة للعديد من الدول (ولكن ليس جميعها). وعلى نحو مماثل، تشكل صيانة الأسواق العالمية المفتوحة شرطاً ضرورياً (ولو لم يكن كافياً) لتخفيف الفقر في الدول الفقيرة، حتى مع استفادة الولايات المتحدة من احترام هذا الشرط.

إلا أن المنافع العامة العالمية تتضمن اليوم قضايا جديدة -ليس فقط قضية تغير المناخ، بل أيضاً قضية حماية الكائنات المعرضة لخطر الانقراض، وقضية الفضاء الخارجي، و«الملكية المشتركة» للفضاء الإلكتروني. إن التوصل إلى قدر معقول من الإجماع في الرأي العام الأميركي من شأنه أن يساعد في ضمان تقديم مثل هذه المنافع العامة، علاوة على المنافع العامة العالمية «التقليدية»، حتى على الرغم من إخفاق الولايات المتحدة في الاضطلاع بدور الريادة في بعض القضايا، وأبرزها قضية المناخ العالمي.

في عالم اليوم أصبحت المنافع العامة العالمية تشتمل أيضاً على ثلاثة أبعاد أخرى جديدة. الأول يتلخص في ضرورة اضطلاع الولايات المتحدة بدور الريادة في المساعدة في تنمية واحترام القوانين والمؤسسات الدولية بهدف تنظيم العمل الجماعي في التعامل مع قضاياً على قدر عظيم من الأهمية، مثل انتشار الأسلحة، وحفظ السلام، وحقوق الإنسان، وغيرها من القضايا، وليس فقط القضايا المرتبطة بالتجارة والبيئة. من المؤكد أن الآخرين سوف يستفيدون من النظام الذي سيتوافر من خلال هذه الجهود، إلا أن الولايات المتحدة سوف تستفيد أيضاً. على نحو مماثل، وبينما يشتكي أنصار الأحادية بشأن القيود التي يفرضها الالتزام بالأنظمة الدولية على الولايات المتحدة، فإن الآخرين أيضاً سوف تقيدهم الأنظمة نفسها. ثانياً، يتعين على الولايات المتحدة أن تجعل قضية التنمية الدولية على رأس أولوياتها. ذلك أن القسم الأكبر من الأغلبية الفقيرة من سكان العالم غارق داخل حلقة مفرغة من المرض، والفقر، وانعدام الاستقرار السياسي. وعلى هذا فإن تقديم المساعدات المالية والعلمية من جانب الدول الثرية لا يشكل أهمية كبرى لأسباب إنسانية فحسب، بل إن هذه المساعدات من شأنها أيضاً أن تمنع الدول الفاشلة من التحول إلى منابع للفوضى بالنسبة لبقية العالم.

وهنا أيضاً لم يكن سجل الولايات المتحدة مؤثراً بأي حال. ذلك أن تدابير الحماية التجارية التي تتبناها الولايات المتحدة كثيراً ما تلحق الضرر بالدول الفقيرة في المقام الأول، فضلاً عن ذلك فإن المساعدات الخارجية لا تحظى بشعبية كبيرة بين عامة الأميركيين. إن التنمية تستغرق وقتاً طويلاً، والمجتمع الدولي في حاجة إلى استكشاف السبل الأفضل لضمان وصول المساعدات بالفعل إلى الفقراء، إلا أن الحكمة والاهتمام بتعزيز القوة الناعمة يؤكدان أن الولايات المتحدة لا بد أن تضطلع بدور ريادي في هذا السياق أيضاً.

أخيراً، تستطيع الولايات المتحدة، باعتبارها قوة متفوقة راجحة، أن تقدم منفعة عامة على قدر عظيم من الأهمية، وذلك من خلال العمل كجهة قادرة على الوساطة والتوفيق بين الأطراف المختلفة. فعن طريق المساعي الحميدة للوساطة في حل النزاعات في أماكن مثل أيرلندا الشمالية، والمغرب، وبحر إيجه ساعدت الولايات المتحدة في صياغة نظام دولي صالح لاستفادة دول أخرى منه.

اليوم، يشكل الشرق الأوسط قضية ملحة على المستويات كلها. وقد يكون من المغري في بعض الأحيان أن نترك الصراعات العنيدة العسيرة حتى تتفاقم، فضلاً عن ذلك فهناك بعض المواقف التي تستطيع دول أخرى أن تؤدي دور الوسيط على نحو أكثر فعالية. ولكن حتى حين لا ترغب الولايات المتحدة في الاضطلاع بدور القيادة، فإنها تظل قادرة على تقاسم القيادة مع غيرها من الجهات الدولية، كما فعلت أوروبا في قضية دول البلقان. ولكن في كثير من الأحيان قد تكون الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على جمع الأطراف المختلفة والتوفيق بينها.

إن نجاح هذا الدور الزعامي يضيف إلى قوة أميركا الناعمة بينما يعمل على استئصال منابع عدم الاستقرار. كما تستطيع الولايات المتحدة أيضاً أن تشجع دولاً أخرى على المشاركة في إنتاج مثل هذه المنافع العامة. والحقيقة أن الترحيب بنهوض القوة الصينية، باعتبارها كياناً قادراً على الاضطلاع بمسؤولياته العالمية، يشكل دعوة إلى الشروع في مثل هذا الحوار.

إن الولايات المتحدة سوف تظل على الأرجح تشكل القوة المتفوقة الراجحة على مستوى العالم، حتى بعد أن تخلص نفسها من مستنقع العراق. ولكن يتعين عليها أن تتعلم كيف تعمل مع الدول الأخرى وكيف تتقاسم معها القيادة. إلا أن تحقيق هذه الغاية يتطلب الجمع بين القوة الناعمة الجاذبة والقوة العسكرية الصارمة، حتى تتمكن الولايات المتحدة في النهاية من بناء استراتيجية «القوة الذكية» القادرة على تقديم المنافع العامة العالمية.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top