تجدَّد الجدل بشأن الحملة الفرنسيَّة على مصر حملة نابليون تنويريّة أم استعماريّة؟
أعاد كتاب جديد، من إصدار الدار المصرية-اللبنانية، الجدل مرة أخرى حول الحملة الفرنسية على مصر وهل كانت حملة تنويرية أم استعمارية؟
والكتاب هو محصلة مؤتمر الجمعية التاريخية، الذي خصصته لهذا الموضوع منذ عام 1998 من منطلق إعادة تقييم الحدث ووضع ما ترتب عليه من آثار سياسية وثقافية على مصر والشرق العربي في حجمها الحقيقي.يقول أستاذ التاريخ الدكتور ناصر أحمد إبراهيم - قام بتحرير الكتاب - كان لا بد من دراسة الحملة الفرنسية (1798/1801) من شتى الزوايا، والكتاب الذي حمل عنوان «مائتا عام على الحملة الفرنسية رؤية مصرية» وشارك فيه أكثر من عشرين باحثا ومؤرخا لم يترك سؤالا حولها إلا ووافاه بحثا ودراسة وتمحيصا. قُسّم الكتاب إلى أبواب موضوعية مثل: المقاومة، نقد المشروع، إشكاليات الترجمة، الحملة المصرية في المصادر والمناهج، اتجاهات التفسير المتعلقة بها، كيف تجلت الكتابات عنها في المنظور العربي المعاصر، وهل كانت الحملة صدمة فعلا؟ ثم تُختتم الأبواب بقراءة نقدية للمسألة كلها. يلاحظ أن الكتاب لم يقع تحت وطأة الانبهار بالفرنسيين، الأمر الذي أتاح للرؤية المتنوعة أن تكون موضوعية وخالية من التحامل ولم يقع كذلك في فخ رؤية الذات رؤية متعالية اعتمادا على تاريخها الذي كان ذهبيا، وإنما وُضعت الحملة في سياقها من تطور التاريخ العالمي في الشرق الأوسط وفي مصر.كذلك يلاحظ أنه عندما جرى الاحتفال في مصر بمناسبة مرور قرنين على الحملة كانت معظم كتابات الفرنسيين تركز عليها باعتبارها رسالة حضارية قامت من خلالها فرنسا بنقل الحضارة الغربية إلى الشرق الإسلامى المتخلف.ولعل صدور هذا الكتاب الآن، في ظل الصراع على الشرق الأوسط أيضا بما يشكل حلقة متشابهة مع ظروف الحملة في نهاية القرن الثامن عشر، يعني أن المهتمين بتاريخ المنطقة غير غافلين عما يجري حولها من صراعات وأنهم على مستوى التحدي الحضاري. وقال رئيس الجمعية التاريخية الدكتور رؤوف عباس إن الحملة الفرنسية توضع في إطار المشروع الاستعماري الأوروبي، فهناك موجات المقاومة الضارية التي لقيتها الحملة المصرية ليس في القاهرة والإسكندرية فحسب بل شملت ريف الدلتا والصعيد. كذلك لم يكن الوجود الفرنسي في مصر سهلاً ولينا، بل واجه جنود الحملة مختلف الأمراض التي حصدت أرواح بعضهم وأفقدت الإصابة بالرمد الصديدي الكثير منهم نعمة البصر.ويقف أمام إشكالية أخرى في الكتابات عن الحملة الفرنسية وهي أنه على رغم كثرة الكتابات عنها، فإن هذا الإنتاج الضخم الذي قدِّم عن الاحتلال الفرنسي لمصر قد صاغ في الأساس وجهة نظر (المحتل) الذي بلور خطاباً ايديولوجياً من النوع التبريري الذي يغلف الحقائق بالأفكار التي تخدم مصالح المستعمر بصرف النظر عن تناقضاتها مع الواقع التاريخي، في الوقت الذي لم توازه إسهامات جادة من الجانب المصري هذا.وقد بدا الخطاب الفرنسي مهيمناً على تفسير تاريخ ومغزى هذا الحدث - كما يقول ناصر إبراهيم ـ بشكل أدى في النهاية إلى اضطراب الصورة الناجمة عن تلك الغزوة الاستعمارية.أحلامويرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة عين شمس الدكتور أحمد زكريا الشلق أن الحملة الفرنسية على مصر، في نهاية القرن الثامن عشر، كانت جزءا من الأحلام الإمبراطورية لنابليون الذي كان مأخوذا بسحر الشرق ومتأثرا في كتابات المستشرقين ومستخدما لهم أيضا.ويضيف أن الجنرال الشاب كان يتوق إلى الشرق بعد إعجابه بكتابات عالم المصريات والإسلاميات الفرنسي كلود سافاري الذي عاش في مصر وتعلم العربية وترجم القرآن وكتب خلاصة دراساته في كتابي «حياة محمد» و«رسائل عن مصر»، حيث أمر نابليون بتوزيع الكتاب الأخير الذي صدر عام 1786 على جنوده ليشحذ هممهم ويغريهم بالعالم الذي سوف يغزونه.ويشير الشلق في كتابه «الحداثة والإمبريالية الخيال الأوروبي» إلى أن نابليون اعتبر كتاب الفرنسي قسطنطين فولني «رحلة في مصر وسوريا» الذي صدر عام 1787 بمثابة «توراة مغامراته الإسلامية في مصر، ومن ثم خص به قادة جنوده». حيث راودته أحلام الإسكندر الأكبر في سعيه للسيطرة على مصر «قلب العالم القديم» ولم يهدف إلى تحديثها بدليل إعادته المطبعة الى بلاده بعد الفشل الذريع والسريع للحملة (1798-1801).ويشار إلى أن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد قال في كتابه الاستشراق - قبل نحو 30 عاما - إن الشرق اختراع أوروبي، وإن الاستشراق كيان له وجوده النظري والعملي وقد أنشأه من أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مر أجيال عدة. أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهبا معرفيا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين. وعلى رغم نفي سعيد أن يكون الاستشراق مؤامرة، فإنه شدَّد على كونه ظاهرة ثقافية وسياسية، وأنه في بعض جوانبه كان متواطئا مع المصالح الاستعمارية، ومن الصعب «فصل مصالح المستشرق من طرف واحد عن السياق الإمبريالي العام الذي بدأ مرحلته العالمية الحديثة بغزو نابليون لمصر», مشيرا إلى ما وصفه بالرصانة المتعمدة لكتاب «وصف مصر» الذي أمر نابليون بوضعه، حيث تشهد مجلداته بالجهود المنهجية لفيلق كامل من العلماء الفرنسيين الذين يساندهم جيش حديث يقوم بالغزو الاستعماري.