صنع الله إبراهيم...عين تتلصّص على المجتمع!

نشر في 05-02-2008
آخر تحديث 05-02-2008 | 00:00
No Image Caption
 طالب الرفاعي إن حياتنا في جوهرها، لا تعدو أن تكون إلا تراكم تلك التفاصيل واللحظات الصغيرة التي نحيا، والتي يصعب جداً الإمساك بها، لكن صنع الله إبراهيم، في روايته «التلصّص» الصادرة عن دار المستقبل العربي 2007، استطاع أن يمسك بتفاصيل صغيرة ونزِقة، ليشيد منها بناءً وعمارةً فنية لافتة.

إن قارئ رواية «التلصّص»، ومع سطورها الأولى، يجد نفسه متورطاً في التلصص على حياة البطل الطفل مع أبيه، لكن الأمر سرعان ما ينكشف عن تلصص أكبر يشمل الجميع. فالطفل يتلصص كل ما حوله: البشر، والأمكنة، وخبايا لحظة الزمن الدائر، والأب يتلصص النساء، ووضعه المادي المتردي، وأحوال البلد، وأخيراً، فإن أفراد المجتمع، نساءً ورجالاً، يتلصصون على حياة بعضهم البعض، ووحده الروائي هو صانع آلة التلصص الساحرة، والمتحكم في دوران عجلتها.

إن رواية «التلصص» بدءاً من صورة غلافها، مروراً بكتابتها بصيغة ضمير المتكلم، وانتهاء بتفاصيل حيوات بطلها، توحي، بشكل أو بآخر، بأنها السيرة الذاتية للكاتب صنع الله إبراهيم، وإذا كان صنع الله، في مقابلة أجرتها معه جريدة الأهرام بتاريخ 28/3/2007، قد فنّد ذلك بقوله: «هذه ليست سيرتي الذاتية، إنما هي رواية، وإن كانت تحتوي على تفاصيل من حياتي، وبعض المواقف والتفصيلات التي عشتها». فإن الرد يؤكد على أن الرواية هي سيرة ذاتية لمؤلفها، أكثر مما ينفي عنها خلاف ذلك.

إن كتابة السيرة الذاتية، واحدة من أصعب أنواع الكتابات الأدبية، كونها تحتاج من الكاتب، لأن يُعمل مبضع الكتابة الحاد في لحمه الحي، وأن يستعيد لحظات حياته الحميمة، كاشفاً عنها غطاء سترها وسريتها الشخصية، وجاعلاً منها مادة أدبية متاحة لجميع القراء، وإذا كانت رواية السيرة الذاتية، من الصعوبة بمكان على مستوى فنية الكتابة، وامتلاك جرأة البوح، واسترجاع التفاصيل، ووضعها ضمن سياقها الزمني، فإنها تكون أصعب، من ناحية امتلاك الكاتب لشجاعة مواجهة نفسه، والتخلص من جميع الرقابات، الذاتية والاجتماعية، وتحمّل ما يترتب على الخروج على العائلة والأهل والأصدقاء والمجتمع، وقول ما لا يمكن التصريح به.

ولأن كتابة السير الذاتية، عادة ما تكون، مغموسة بما يُعرض المجتمع عن رؤيته، فإنها، في المحصلة، تشكل صوتاً فردياً يعري مجتمعاً بأسره.

إن رواية «التلصص» أعادتني بأجوائها الكابوسية، النفسية والمادية، إلى أجواء روايات كافكا، فهي تغوص في عمق المعاناة النفسية لطفل يعيش مع أبيه، خائفاً من الوحدة والظلمة والعفاريت، بينما يعاني الأب من إشكالية مواجهة طلبات الطفل، وسط طلبات جسده ولحظة عمره المتقدمة، وكل هذا يدور في أحياء فقيرة، وبشخوص ممسوسة بوجعها، كل حسب وضعه، وبما يخلق من مجمل الرواية حالة من البؤس، الذي يتلصص عليه القارئ، ولا يمتلك إلا أن يذوب فيه.

إن صنع الله إبراهيم، كان على الدوام كاتباً مشاغباً في مواقفه الحياتية، سياسياً واجتماعياً وأدبياً، ولقد كان مشاغباً وجريئاً أيضاً وهو يستعيد بعض ذكريات حياته وعائلته، جاعلاً من الجنس اللاهث خيطاً ينظم أجزاء روايته، وهل أصدق من ذلك خيط؟

back to top